نشر بتاريخ: 29/02/2016 ( آخر تحديث: 29/02/2016 الساعة: 21:42 )
دأب المحللون على اعتبار الصحافة انها السلطة الرابعة في اشارة الى السلطات الثلاث المفترضة وهي التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وان الرابعة هي صاحبة الجلالة وهي التي تستطيع ان تصنع الرأي العام وتوجه الجمهور وتسقط الحكومات وترفع من مقام المظلومين .
اما اليوم فنستطيع القول ان الفيسبوك وعشيرة التواصل الاجتماعي مثل اليوتيوب وتويتر وسناب تشات والتيليغرام والواتس أب وغيرها صارت هي السلطة الخامسة، والاكفأ تطورا والاكثر سرعة والاشد بأسا حين بلغ عدد مستخدميها ما يفوق مليار ونص المليار . حتى راح البعض الى تسميتها بالقارة . لان عدد سكانها الافتراضيين يفوق عدد سكان العديد من القارات .
ويعتقد البعض ان السلطة الخامسة قد أزعجت السلطات الثلاث الاولى، والحقيقة الاوضح انها أقلقت السلطة الرابعة أيضا والتي تبدو الان مثل " الزوجة الاولى" التي تزوّج عليها زوجها اخرى أصغر واجمل وأسرع منها . ولكن السلطات الثلاث الاولى عبّرت عن قلقها وباحت بخوفها من السلطة الخامسة ، امّا السلطة الرابعة فكانت أكثر دهاء وادّعت انها هي التي صنعت السلطة الخامسة ونسبت الفضل لنفسها وليس للاتصالات والعلماء . فترى ان القنوات الفضائية والصحف المطبوعة والاذاعات قد سارعت الى اعداد برامج عن التواصل الاجتماعي وافراد مساحات كبيرة لها واستضافت أبطال المدونات لدرء المواجهة بين السلطتين الرابعة والخامسة او حتى تأجيلها .
ان السلطة الخامسة أسرع وأذكى واوسع ، والاهم انها مجانية ، ومتوفرة اينما كان ، وفي اي وقت ، ومتى تشاء وأين تشاء ، وهو امر يعجز البث التلفزيوني او البث الاذاعي عن تقديمه . كما ان السلطة الخامسة مختصرة ومقتضبة ولا تدقّق في قواعد اللغة أو شكل المنتسب كما انها تسمح لك باستخدام صورة اخرى انت تختارها واسم اخر انت تختاره فلا تشترط الهوية الحقيقية لك للانتساب وكتابة ما تريد ومشهدة ما ترغب .
ولذلك نجحت في استقطاب الستاند أب كوميدي ( يوتيوب ) وقطاعات كانت نخبوية منعزلة واستقطبت الاطباء والفقراء والاغنياء والظرفاء وجميع خلق الله ، ولا يهم الفيسبوك او اليتويوب تلك القوانين التي تراعيها الحكومات مثل الممنوع والمسموح والعيب والحرام والجميل والقبيح ، فهذه مصطلحات لا تحد من انتشار العالم الافتراضي . فالعالم الافتراضي يفتح ذراعيه لداعش وللملحدين على حد سواء ، ولرجال الدين ولدعاة الحداثة ، وللرجعيين وللادباء والمومسات وللاشراف وللأنذال والفقراء والصغار والكبار دون ان يسألهم عن جنسهم او دينهم او طولهم او اعمارهم .
ومع تطوّر العلم يزداد علم تكنولوجيا الاتصالات نفوذا وقوة وانخفاضا في الاسعار ، فيوفر الاتصالات المجانية والصورة والصوت والاضاءة ويقرّب البعيد وقد أسقط الحدود والقيود والجنود والعسس . ولا يستطيع اي جهاز مخابرات في العالم ان يدّعي سيطرته على العالم الافتراضي فقد رأينا ماذا فعل سنودان بالمخابرات الامريكية حين كشف اسرارها عبر صفحة ويكليكس، وفي العالم الافتراضي لا يوجد ملوك وصعاليك، لان الجميع ملوك وكل صاحب حساب فيسبوك هو رئيس تحرير نفسه . ولا يحتاج الى رخصة من مسؤول ليقول له انه اعلام مسؤول ومحترم او سئ وفاشل .
ان اي طفل يجلس في حديقة المدرسة ، ان اي عاطل عن العمل يلبس بيجاما في حديقة منزله الخلفي صار قادر على الوصول الى المعلومة او ارسالها ، وقد فشلت البرلمانات وعلماء القانون والحكومات في فرض عقوبات او حظر على التكنولوجيا ، وان حاولت ان تمنع الوصول اليها فان ذلك جريمة بحق الناس . وقد شاهدنا محاولات مصر ايام مبارك ومحاولات ايران والسعودية وتركيا وكوريا الشمالية وغزة والضفة واسرائيل وغيرها من الدول حظر تويتر او فيسبوك او المواقع الاباحية او منع مواقع اخبارية معادية من التواجد على الشبكة ، الا انها محاولات فاشلة ولن تدوم ، لان تكنولوجيا الافتراضي ستخترق القصور والسجون وتصل الى الجميع شئنا أم أبينا . ولن تسطيع أقوى الحكومات منع معارض من قول رأيه ، ولن يستطيع اقوى المحافظين منع المواقع الجنسية ، ولن تستطيع أشد المخابرات قسوة من حظر الرأي الاخر ، ولاحظنا محاولات المتدينين المحافظين منع اليهود " الحريديم " من استخدام الهواتف الذكية والانترنت وكيف صارت بناتهم واولادهم يسرقون الانترنت من نوافذ الجيران ويتصلون ليلا بالعالم الافتراضي .
السلطة الخامسة لم تطرد السلطة الرابعة بل جلست على صدرها ، وفرضت نفسها ضيفا مرغوب - او غير مرغوب فيه - في حياتنا ، ومن لا يقبلها عن طيب خاطر سيقبلها رغم أنفه ، وان الهواتف الذكية صارت لازمة من لوزام الحياة ، وبعد قليل سيصبح تعريف الامية : ان من لا يحمل هاتفا ذكيا هو الاميّ .