|
هؤلاء لا زالت اقدامهم المبتورة تتحرك
نشر بتاريخ: 15/03/2016 ( آخر تحديث: 15/03/2016 الساعة: 15:48 )
الكاتب: فردوس عبد ربه العيسى
وصل عدد الاسرى الجرحى والمصابين بالرصاص الاسرائيلي الى 85 مصابا منذ اندلاع الهبة الشعبية الفلسطينينة في تشرين الاول 2015، اغلبهم أصبح معوقا لا يستطيعون التحرك الا بالاعتماد على الاجهزة المساعدة، وبعضهم تم بتر أجزاء من اطرافهم بسبب تهتكها نتيجة الاصابات بالرصاص الحي المتفجر على يد الجنود والقناصة الاسرائيلين.
عيسى طفل فلسطيني لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، اعتقل بعد ان اصيب بجراح بليغة جراء اصابته برصاصة"دمدم" متفجر في قدمه اليمنى على يد جنود الاحتلال ، ونقل الى المستشفى بسبب تدهور وضعه الصحي حيث قرر الاطباء بتر قدمه اليمنى المصابة. وجلال شروانة طفل اخر لم يتجاوز السادسة عشر عاما، اعتقل بعد ان تعرض لاصابة في ساقه وابقي في السجن دون تلقي العلاج المناسب مما ادى الى تدهور وضعه الصحي فبترت ساقه، وقد تم دفن تلك الاطراف المبتورة في جنازة رسمية احتراما. ان هذان الطفلان ما هما الا بعض النماذج من عشرات غيرها من الاسرى الذين تحولوا الى معوقين جسديا بالسجون. لقد فقد عيسى وجلال اطرافهما ولكنهما لم يفقدا الاحساس بها فلا زالا يشعران بانها موجودة كما السابق،ولا زالا يحلمان بانهما يركضان ويلعبان الكرة مع اصدقائهما فيستيقظا من الحلم فزعيين، فلا زالت اطرافهما وبالرغم من البتر موجودة هناك في اعصاب وخلايا ادمغة كل منهم. وهذا الامر عادة ما يحدث في مثل هذه الحالات،فقد لاحظه الطبيب(سيلسي ميتشل) في الحرب الأهلية الأمريكية اثناء علاجه لضحايا تلك الحرب الذين تعرضوا لفقدان جزء من اجزاء جسدهم حيث تبين انهم لا زالوا يشعرون بان ما فقدوا لا زال موجودا وانهم يشعرون بالالم فيه وقد يشعرون بان الملابس تلامسه او تغطيه.وهذا ما عرف من قبل العلماء بظاهرة الالم الوهمي (phantom limb pain )وهو شعور واهم يتشابه مع ما ينتاب الاشخاص في حال فقدان شخص عزيز فيخيل لهم انهم يسمعون صوت فقيدهم بعد ان توفي . ويرجح علماء الاعصاب ان السبب وراء استمرار هذا الشعور الوهمي باللالم الى ان التركيب العصبي للدماغ ما زال يعمل كما كان قبل البتر، فيرسل الدماغ إشارات إلى الطرف المبتور وكأنه موجودا ، ولأنه لا توجد تغذية أحاسيس راجعة من الطرف الذي بتر، فإن الدماغ يكثف من إرسال إشاراته العصبية إلى هذا الجزء وبالتالي يتكون توهم الألم.وتشير الدراسات الى ان 95% من الذين يتعرضون لفقدان جزء من اجزاء جسدهم يصبح لديهم هذا الشعور الوهمي بالألم كما ويشعرون بالحركة الوهمية في الجزء المبتور، او بمشاعر الدفىء أو البرودة. اذا كانت هذه هي ردود فعل الجهاز العصبي للفقدان فردود الفعل النفسية لا تقل تعقيدا ، حيث تظهر الدراسات ان الانسان يكون مفهومه عن ذاته عبر مراحل عمره المختلفه بناء على ما يمر به من خبرات وتجارب وما يتعلمه من البيئة ويكون مفهوم الذات الجسدية او صورة الجسد الخاصه به، ففي حال تكونت صورة ذات ايجابية فانه يحيا في حاله من الاتزان والتوافق النفسي والاجتماعي اما اذا تكونت صورة ذات سلبية فذلك يقود الى سوء التوافق والى اضطرابات انفعالية وعاطفية وسلوكية. ومرحلة المراهقة التي يمرا بها حاليا تعتبر من المراحل الحرجة التي قد يتعزز فيها او يشوه مفهوم الذات ، فقد وصفها عالم النفس هول( 1904) بمرحلة العواصف والتوتر وذلك لما يرافقها من غياب الاتزان العاطفي والانفعالي والسلوكي والتأرجح من النقيض إلى النقيض بين السعادة والمرح والتشاؤم والحزن والاكتئاب. فالمراهق يبدى انزعاجا شديدا لاي تغير يطرا على شكله او طوله او وزنه مما يشير الى اختلال في صورة الجسد وعدم تقبل التغيير حتى لو كان نتيجة للنمو الطبيعي فما الذي قد يحدث عند التعرض لفعل اجرامي تمثل باطلاق رصاصة متفجرة ادت لبتر او فقدان جزء من الجسد؟ هذا وتؤكد النظريات النفسية القديمة ومنها نظريات شيلدون وكريتشمر وجود علاقة وثيقة بين نمط الشخصية ونمط الجسد فالسمات الجسمية كالسمنة والطول تؤثر على بناء الشخصية وعلى السلوك، فهذا النظريات ترى بان الشخص البدين يتصف بالمرح ويكون اجتماعي ، اما الشخص النحيل فهو منطو ومكتئب، بينما الشخص الرياضي فهو عدواني. ومن هنا يتبادر السؤال حول ماذا عن المراهق الذي تكون لديه مفهوم جسد ايجابي وفقده بسبب التعرض لفقد احد اطرافه نتيجة لعدوان جيش الاحتلال عليه؟ الاطراف المبتورة للاسرى الجرحى تتحرك في الفراغ،تبحث عن النقصان في الجسد والمكان، وفي السجون المغلقة الخالية من المساحات والادوية والكلمات المواسية او الداعمة،يعيش الاسرى مع اطرافهم المبتورة ويحركونها بارداة معنى الحياة، تعويضا عن الخسارة والفقدان وككل مكتمل يتحدون العدم. ان القوة الداخلية للانسان الاسير تعلو فوق قدرة عالم السجون، فيسمو بذاته، عندما يصبح هناك معنى للالالم والمعاناة جديرا بها للوصول الى الحرية الروحية والكرامة الانسانية، وكما قال الفيلسوف نيتشة"ان من عنده سببا لان يعيش من اجله،فانه غالبا يستطيع ان يتحمل في سبيله باي شكل من الاشكال"، فالانسان قوي طالما يتمسك بفكرة قوية. ان تجربه فقدان جزء من اجزاء الجسد لا شك انها من التجارب التي تحدث تشوها في صورة الجسد وتفقده صفة الاكتمال، وتشعر بالخجل والنقص ، وكما بين عالم النفس التحليلي (ألفرد ادلر)فان وجود عجز او قصور جسمي يؤدى بالفرد الى الشعور بالدونية وعدم الامان وعدم تقبل الجسد، والانسحاب من المواقف التي تتطلب الاختلاط بالاخرين او تتطلب الاعتماد على القدرات الجسدية ومن ثم تظهر اعراض العزله والانطواء والابتعاد عن المشاركة بالانشطة ومخالطة الاخرين ، ويقود الى الشعور بالاحباط الناتج عن تكرار الفشل اثناء محاولات القيام بمهمات كان يقوم بها قبل البتر والان يعجز عنها. هذا من ناحية ومن ناحية اخرى، ما هي المشاعر التي يمر بها انسان حيال دفن الجزء الذي بتر من جسده،وقد تم الدفن بمراسم جنائزية رسمية في قبر معروف العنوان؟اي نوع من الارتباط والتعلق ينشأ بين الكل والجزء والمكان؟ في الظروف العادية عندما يموت الانسان يتم دفنه ، حيث يدفن كل الجسد وليس جزء يُدفن وجزء يقوم بالدفن . ان هذا النوع الفريد من الفقدان لا يوجد الا في فلسطين حيث تزرع شجرة الزيتون كشاهد قبر للدلاله على اهمية الجزء كما اهمية الكل، وعلى ارتباط الجزء والكل بالارض المقدسة وبرباط مقدس. |