|
عيد الأم وثقافة التحريم
نشر بتاريخ: 23/03/2016 ( آخر تحديث: 23/03/2016 الساعة: 11:02 )
الكاتب: د. وليد القططي
من ذكريات المدرسة المحفورة في عمق الذاكرة أيام الاحتفالات المدرسية الخاصة بالمناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية , فأيام الدراسة العادية يُمحى جُلها من الذاكرة رغم بقاء أثرها , ولكن أيام الاحتفالات المدرسية تظل وتبقى أكثر حضوراً في الذاكرة وأشد تأثيراً في النفس , ومنها الاحتفال السنوي المتكرر بيوم ( عيد الأم ) في الحادي والعشرين من مارس آذار من كل عام , حيث كان الاحتفال بهذا اليوم يستغرق كل اليوم الدراسي ويتخلله تكريم لأمهات الطلبة اللواتي يحرصن على حضور الاحتفال الذي يتضمن العديد من الأنشطة الطلابية الهادفة كالمسرحيات والأناشيد والكلمات وغيرها التي تنتهي بنهاية اليوم الدراسي , ولكن أثرها لا ينتهي طوال العمر , فلا ينتهي اليوم الدراسي إلا والعديد من القيم التي تتمحور حول بر الوالدين واحترام الكبار ورد الجميل والوفاء للآخرين وغيرها قد وجدت طريقها إلى منظومة القيم التي يتشربها الجيل الجديد وتترسخ في وجدانه , فتسهم تلك الاحتفالات في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للنظام التعليمي الرسمي .
وظلت المدارس تحتفل بيوم ( عيد الأم ) حتى انتشرت ثقافة التحريم في المجتمع التي جاءت بها إحدى المدارس الفكرية الإسلامية التي ضيّقت على الناس أبواب رحمة الله وقيّدت حرياتهم إلى الحد الأدنى الذي سمح به فقهاء هذه المدرسة ومشايخها , الذين شددوا على الناس في حياتهم وجعلوهم من أهل النار – باستثناء من تبعهم – بعد مماتهم . فاكتشفنا أن الاحتفال بيوم أو عيد الأم حرام شرعاً وبدعة ضالة وتشبه بالكفار , وكذلك الاحتفال بمناسبات أخرى كالمولد النبوي ورأس السنة الهجرية وغيرها من المناسبات التي يحرّمون الاحتفال بها رغم احتفالهم بأعياد ميلاد ملوكهم ورؤسائهم وكذلك جلوسهم على العرش أو استيلائهم على مقاليد الحكم وغيرها من المناسبات التي تخص ولاة أمورهم أولى النعمة عليهم . وعلة التحريم عندهم أن السلف الصالح لم يحتفل بها ولذلك فهي بدعة حادثة وهي تشبه بالكفار لا يجوز . فأصبح الاحتفال بيوم ( عيد الأم ) في المدارس من ذكريات الماضي البعيد , إلا من رحم الله من المدارس , وإن تم فإنه يتم على خجل وفي خوف من سطوة الإرهاب الفكري الذي تمارسه تلك المدرسة الفكرية القادمة من رمال الصحراء القاحلة . وفي الرد على ذلك يقول الدكتور محمد بكر اسماعيل من علماء الأزهر الشريف " إن عيد الأم من بدع العادات لا من بدع العبادات , وبدع العادات لا يأمر بها الإسلام ولا ينهي عنها إلا إذا كانت تتصل بالدين من قريب أو بعيد , فإذا كانت هذه العادات تعبّر عن الوفاء والاعتراف بالجميل وتدعو إلى البر والإحسان إلى من يستحق البر والإحسان كالأم والأب ومن في حكمهما كالجدة والجد فإن الإسلام يبارك هذه العادات ويقرها . " ويؤكد هذا المعنى الدكتور عبد الفتاح عاشور من علماء الأزهر الشريف بقوله : " الاحتفال بأيام فيها تكريم للناس أو إحياء ذكرى طيبة لم يقل أحد بأن هذا احتفال ديني أو عيد من أعياد المسلمين , ولكنه فرصة لإبداء المشاعر الطيبة نحو من أسدوا لنا معروفاً ومن ذلك ما يُعرف بالاحتفال بيوم الأم أو بعيد الأم , فإن الأم لها منزلة خاصة في دين الله , بل في كل دين , ولذلك يجب أن تُكّرم وتًحترم ويُحتفل بها , فلو اخترنا يوماً في أيام السنة يظهر الأبناء مشاعرهم الطيبة نحو أمهاتهم وآبائهم لما كان في ذلك مانع شرعي , وليس في هذا تقليد للغرب أو الشرق , نحن نحتفل في هذا اليوم بما لا يُخالف شرع الله , بل العكس ننفذ ما أمر الله به من بر الوالدين . " وختاماً فإن ثقافة التحريم ومعها ثقافة التكفير ما أن تنتشر في مجتمع ما حتى تنزع منه الرحمة وتغرس فيه القسوة , وتستخلص منه التسامح لتنشر فيه التعصب , وتقضي على الوسطية والاعتدال فيه لتحيي بدلاً منهما التطرف والغلو , وتميت روح الحوار المتبادل بين فئاته المختلفة لتنفخ بينها روح الإقصاء المتبادل , وتفتك بثقافة الانفتاح وتقبل الآخر والتعايش السلمي فيه لتحل محلها ثقافة الانغلاق ورفض الآخر والصراع العنيف ....ولن يوقف هذه الثقافة الكئيبة إلا بثقافة أخرى مشرقة تُعلى قيم الرحمة والتسامح والوسطية والاعتدال والحوار والانفتاح وتقبل الآخر والتعايش السلمي ... وهذا بدوره يحتاج إلى فهم صحيح للدين يرتكز على النبع الصافي للإسلام وليس على اجتهاد وفهم محدد للإسلام يحتكر الحق والصواب لنفسه من دون الاجتهادات الأخرى , يحتاج إلى التدين الحقيقي الذي يستند إلى مضمون التدين وروحه التي تسري في القلب فتملأه إيماناً , ويقيناً ونوراً , وتسري في العقل فتملأه إشراقاً وانفتاحاً وابداعاً , وتسري في السلوك فتملأه أخلاقاً وسماحةً ورفقاً . |