وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

تلك الخادمة غارقةٌ في ضجرِها

نشر بتاريخ: 26/03/2016 ( آخر تحديث: 26/03/2016 الساعة: 13:30 )
تلك الخادمة غارقةٌ في ضجرِها
الكاتب: عطا الله شاهين
تعيش تلك الخادمة في فيللا لرجُلِ أعمالٍ ثري، وكعادتها تقوم بتنظيفها مرتين في اليوم، تمسحُ زُجاج النّوافذِ، تغسلُ الملابسَ، تقومً بكي البناطيل والقُمصان لصاحبِها الدّائم السّفر مع زوجته بحكم عمله، تزيلُ الغُبارَ عن اللوحاتِ المُعلّقة على جُدرانِ غُرفةِ الصَّالون، تُعيدُ ترتيبَ الملابس في الدُّولاب، توضِّبُ ما كانتْ قدْ وضبتُه بالأمس، تذهبُ كعادتها في ساعاتِ الظُّهر للاستحمامِ، وتبقى فترة طويلة جالسةً في الحمَّامِ في بانيو لمْ تحلم بأنْ تستحمّ فيه، تُرجعُ كُلَّ المنامات التي كانتْ لها، والتي لمْ تقع، تراها في مناماتِ صحوتها وتبدّل طُرقها لمصلحتها، تقفُ أحيانا أمام مرآة كبيرة، تنظرُ إلى جسدها، لا تنعمُ النَّظرَ هناك كثيراً في ملامحِ سحنتها التي تغيّرت، بلْ اعتادتْ أن تنظرَ نظرةَ المباغضة المُستهينة إليها لكيْ لا ترى امرأةً أُخرى في تلك المرآة، تقومُ وتفتلُ شعرَها إلى ضفيرتيْن، وقد تحلّهما بعد برهةٍ وتجعلُ شعرَها مُنساباً على ظهرِها، ثم لا تُبطئ أنْ تردّه إلى الوراء، وتربطُه بربطةٍ مطاطيّةٍ مُلوّنة، تشعرُ بالضَّجر في تلك الفيللا، فلا أحد هناك لكيْ يسليّها، أعادتْ قراءةَ كُتبِ يحبُّ صاحبُ الفيللا قراءتها، فتقوم بقراءتها عدّة مرّات، وما عادتْ تُدهشها، وحينما تشعرُ بالسَّغبِ تأكل مِنْ دون شهوة، كل ذلك تفعله في كل يومٍ، كما لو أنّه فيلمٌ سينمائي يُكرّر، ومع ذلك تشعرُ بالضّجر، تغلقُ عينيها، ولا تنامُ مثل بقية الناس، بل تتقلّبُ على التّخت، كأنّها ترقدُ على شوكٍ، تنزلُ عدّة مرّات مِنَ على التَّختِ وترنو مِن الشُّباك، ترى منازلَ القرية نائمة، ولمعانُ السّيّارات المسرعة تتسارع، وثمّة ظلال تتحرّك وراء الستائر في المنازلِ الأخرى، ولا تدري ماذا يحصلُ في الدُّنيا من أخبار، الخرابُ في الاتصالات في الحيّ الذي تقطنُه لمْ يُصلّح مُنذ أكثر مِنْ أسبوعين، فانقطعَ عنها الاتصال مثل بقية سكان الحيّ، ولمْ تتمكّن من الاتصالِ مع أحدٍ مِنْ صديقاتِها اللواتي يعملنَ في أماكنٍ بعيدةٍ مثلها، فالشَّبكة العنكبوتية مُعطّلة أيضا..

تتذكّر قصَّة ما وتقولُ في ذاتها : في زمنٍ ضاعتْ ساعاته وانطوتْ أيامه، ثمة فتاة حنطية جميلة المقلتين، لمّاحة، عذبة الحديث، رغبَها كثير من الشّبّان، لكنّها أرادتْ شابّا واحداً اختطفته الحياة إلى جهةٍ أخرى بعد أنْ أرشفها مصّة من الحُبِّ، لكنّه آثر الابتعادَ، وها هي ظلّتْ تنتظرُ إيابه، لكنَّه لم يعُد.. صارَ ذاك الشَّاب أبعدَ من الكواكب، سكنَ الأجرامَ البعيدة، وتوارى في الفضاء… تلاشى هناك.. 

ولكيْ تفرّ تلك الخادمة مِنْ مناماتِها البائسة وتفسيراتها وطول ترقّبها، فقدْ غادرتْ إلى بلدان بعيدة، لعلّها تسترجعُ لمعان تلك الفتاة التي أضاعتْ دربَها، وما إنْ نزلتْ في بلدٍ غريبٍ حتّى علمتْ بأنَّ الكواكبَ في السَّماء هي ذاتها الكواكب، والقمر هو ذاته يطلع من جهةِ الغرب، ولم يتبدل شيء في نظام العالم، هي وحدها التي تغيّرتْ، فتلك الخادمة تزدادُ المرارة في فمِها، والفراغُ يتّسع في قعرِ قلبِها. 

فتقولُ تلك المرأة في ذاتها : لا.. أبداً.. لمْ أفرّ بسببِ رجُلٍ حوّل اتجاهَه إلى جهةٍ أخرى، فأنا فررتُ من أشياءٍ أخرى، لا أحِبُّ الخوضَ فيها، فلماذا أتّكئ على قصِّة ذلك الشّابّ الذي لا يدري بأنّني عملتُ له رمْساً في فؤادي منذُ زمنٍ ولّى؟ هو الآن خارج دهري، ودهري الآن خارج افتراضاتي، أو هكذا أشاهدُه، مثل كهلٍ أتعبته الأسقام، يبتغي التّفتيش عنْ حيزٍ ليهدأ فيه.

فيوم رحلتْ تلك الخادمة عن بلدها كانتْ تحسبُ بأنّها قبضتْ بمصيرِها، لم تلتفتْ إلى الخلف، ظلّتْ مُصرّة على النَّظرِ إلى الأمام، دون أنْ تعي أنَّ الأمامَ صارَ خلفها، هو دائماً خلفها ولمْ تنتبه، لكنَّها تثرثرُ في هذه اللحظات لكيْ تسدّ فتحاتِ الوْحَدة والضَّجر حتّى لا تكبر، إلا أنّها تتّسع على الرَّغم منها، فتثبْ كأنّها تذكّرتْ شيئاً، ترمي ثرثرتها جانباً، وتنهضُ مِنْ قعودها، تذهبُ وتقومُ بتنظيف الفيللا مرة أخرى، فهي تملل من دون عمل، تنزعُ الربطة المطاطية عن شعرها وتضفرُه مرة أخرى، خمس خُصلات، تنزعُ وجوه المخدّات وتغسلها، تنشرها على الحبلِ داخل الفيللا بالقُربِ من التدفئة، تتطلعُ إلى زهراتها المطبوعة على أطرافها، فتراها قد فقدتْ رونقها بفعلِ كثرة الغسيل، بالضّبط مثل تلك القصص التي فقدتْ لمعانها ولمْ تعدْ تعرفُها، تفتحُ الدُّولاب وتكوّمُ الملابس على تختِ نوْمِها لتعيدَ توضيبها في الدُّولاب، تحسّ بجوعٍ فتلقمُ من دون أيّة شهوة.. تستحمُّ، وتمضي إلى مناماتِ صحوتها حتّى يأتي الظَّلام، وفي الظُّلمة يهبطُ الضَّجر وتهبطُ الوْحَدة بكُلِّ جنونهما، فتتقلّب على الشّوكِ، ثم تنزلُ منَ على التَّختِ، وتواصلُ ما كانتْ قدْ شاهدته مِنْ خلال الشّبابيك في الليلة الماضية، ترنو إلى ظلالِ النّاس وراء السّتائر، وتحلمُ بأشياءٍ غير مألوفة.. يا.. كمْ هو مخيفٌ وبريّ هذا العالم عندما لا تلقى مَنْ يحدّثكَ وأنتَ ملقىً إلى أطرافِ العالم في ضجرٍ..