نشر بتاريخ: 21/05/2016 ( آخر تحديث: 21/05/2016 الساعة: 16:50 )
عندما شرعت في التحضير لكتاب "ياسر عرفات: ذاكرة لا تغيب"، كان الشيء الأهم الذي راودني والذي فكرت فيه مطولاً هو كيفية الوصول إلى رأي حكيم من بين الإسلاميين، بحيث يتمكن فيه صاحبه من عرض مناقب الراحل العظيم؛ ياسر عرفات، ويجمل لنا بعبارات مقتضبة تاريخ الرجل ومسيرته النضالية، بعيداً عن المواقف الحزبية المتحاملة، وهرطقات العامة؛ باعتبار مكانة الرجل وتاريخه ورمزيته للشعب والقضية.
كان الأخ خالد مشعل (أبو الوليد)؛ رئيس المكتب السياسي، وحكيم حماس، هو أول من فكرت فيه. وفعلاً؛ لم يتأخر الرجل في كتابة رأيه في القائد والزعيم أبو عمار.. لقد كان ما كتبه هو أكثر ما أعتز به في هذا الكتاب؛ لأنه كان من أخ مناضل، يعرف للمناضلين قدرهم، وللقادة مكانتهم وحقهم وسيرتهم التاريخية العطرة.. وكم يسعدني أن أقدم ما كتبه الأخ أبو الوليد في قائدنا الوطني، وزعيمنا الذي نعتز به إلى جانب إخوانه الشيخ أحمد ياسين، والدكتور فتحي الشقاقي، والرفيق أبو علي مصطفى، وشهداء ثورتنا الفلسطينية من إسلاميين ووطنيين.. هذه هي كلمات الأخ أبو الوليد في الأخ والأب والقائد والفدائي والسياسي والزعيم البطل ياسر عرفات، والتي جاءت تحت عنوان "أبو عمار كما عرفناه"، وابتدأها بالقول: اتفقتَ معه أو اختلفت.. فالشهيد ياسر عرفات قائد استثنائي في تاريخنا الفلسطيني المعاصر. الحديث عنه من موقع تنظيمي مختلف يقتضي الكثير من الإنصاف، وتغليب الروح الوطنية والمصلحة العامة. والحديث عنه كذلك من موقع الاختلاف السياسي يوجب الكثير من الدقة والموضوعية، ورؤية الأمور على حقيقتها، وبمسؤولية وطنية عالية.
احتل أبو عمار مساحة كبيرة وطويلة في المشهد الفلسطيني وهو يحمل البندقية ويناضل عسكرياً ضد المحتل الإسرائيلي بكل الوسائل، وكانت فتح آنذاك العنوان الأبرز للمقاومة الفلسطينية. ثم طغت على المشهد الفلسطيني صورة عرفات السياسي البراغماتي الذي يفاوض ويصالح العدو، ويفاجئ شعبه والعالم باتفاقية أوسلو الخِلافية، ويقود على أساسها سلطة على جزء من أرض الوطن. ثم كانت أخيراً صورة أبو عمار الذي يزاوج بين المقاومة والسياسة، ويوفر الغطاء القيادي لانتفاضة الأقصى عام 2000 بعد وصول أوسلو إلى طريق مسدود، ليختم هذا المشهد وهو تحت الحصار في المقاطعة: صامداً، فمسموماً، فشهيداً.
لقاءاتي معه كانت قليلة، لكن تواصلي معه في سنواته الأخيرة كان مكثفاً ومستمراً، وتابعته حتى آخر لحظات حياته في مستشفى (بيرسي) في باريس عبر الحلقة اللصيقة به. وعلى ذلك أستطيع بكل ثقة وأمانة أن أشهد لهذا القائد من خلال تلك السنوات، أنه تصرف بشجاعة، ورباطة جأش، وبمسؤولية القائد، وأعطى غطاءً رسمياً للانتفاضة الثانية، ما سمح لفتح وأجهزة السلطة بل ودفَعَها للانخراط فيها بقوة، ويسّر لحماس وقوى المقاومة الفلسطينية المختلفة أن تتحرك في ميدان تلك الانتفاضة بحرية كبيرة وفي بيئة وطنية ممتازة، اختلط فيها الدم الفلسطيني على أرض المعركة، وتشابكت سواعد مَنْ سبق أن مزقتهم أوسلو والموقف المتباين منها.
وأنا شاهد على محطات حرجة مرت بها تلك الانتفاضة، جرّاء حادث هنا أو هناك، كان يمكن أنْ تَصْرِفنا عن النضال المشترك بالانشغال في أنفسنا فلسطينياً، لكن ياسر عرفات تصرف بمسؤولية وطنية عالية، وبقرارات حازمة تجاوز بها تلك المطبات، وأعطى الأولوية للمواجهة المشتركة مع الاحتلال، رغم أن ذلك المشهد لم يخل من التباين في الموقف السياسي بين الحين والآخر.
ولا أذيع سراً إن قلت الآن عن تلك المرحلة وبعد مرور هذه السنوات عليها، أنني كنت معنياً من موقعي الوطني وفي قيادة حماس، أن أقف إلى جانب أبو عمار في المحطات الصعبة والحرجة التي مر بها، وهو يواجه الحصار، والضغط، ورسائل التهديد، وخذلان القريب والبعيد. وكنت أحرص على الاتصال به والشد على يديه وتأكيد الوقوف إلى جانبه قبيل وبعيد كل زائر من ذلك الصنف، ممن يحمل رسائل التهديد ومواقف الخذلان. وكنت أفعل ذلك انطلاقاً من المسؤولية الوطنية، وقيم النخوة والرجولة، والوفاء لقائد لم يخذل شعبه في لحظات المواجهة الحاسمة مع الاحتلال، وعوّض عن سنوات أوسلو العجاف – التي اختلفنا والكثيرون من شعبنا معه عليها – بسنوات انتفاضة وحدت الشعب وفصائله على المقاومة، وأعادت للقيادة الفلسطينية دورها وموقعها الطبيعي، فاستعاد أبو عمار من خلالها الكثير من مكانته وصورته، فكانت خاتمته على النحو الذي جرى والصورة التي أرادها: شهيداً شهيداً.
ليس من الرجولة ولا المصداقية أن تقف إلى جانب صاحب القوة في عزِّ سلطانه، طمعاً في مصلحة أو منصب، ثم تتخلى عنه أو تتآمر عليه حين يكون في محنته ويتكالب عليه القريب والبعيد!! أما نحن فقد اخترنا أن نختلف سياسياً مع عرفات بشجاعة وصدق يوم كانت الدنيا معه. وحين انقلبتْ عليه .. قررنا أن نقف معه ونتعاون معاً في ميدان التضحية والمقاومة.
بطبعي، وبمشاعري الدينية والوطنية والإنسانية، كنت وما زلت أحب لكل من ناضل وقاوم وضحى من أجل فلسطين، أو من أجل قضيته العادلة، أن تكون خاتمته طيبة تليق بتضحياته ونضاله. وقد أحببت ذلك لياسر عرفات، ودعوت له بها، وأنا سعيد بأنه نال تلك الخاتمة، مع الاحتفاظ بحقنا الفلسطيني في القصاص من القتلة الذين سمّموه، رحمه الله. (انتهى كلام الأخ خالد مشعل).
السؤال الآن: لماذا يأتي البعض على ذكر الشهيد ياسر عرفات بما هو خارج الإجماع الوطني والإسلامي؟! ولماذا يتطاول البعض ويتعمد الإساءة؟! وإذا شطبنا مسيرة الشهيد ياسر عرفات من تاريخنا الوطني، فهل يبقى هناك تاريخ؟!
نحن لا نقول أن أبا عمار كان منزَّهاً عن كل عيب أو أنه بدون أخطاء أو أنه لا يشق له غبار... أبو عمار كان إنسان أسهم بحظ وافر في صناعة الهوية الفلسطينية، وكان المبادر في إعطاء الكفاح المسلح نكهة نعتز بها بعد نكسة عام 67. أبو عمار كان أباً للجميع؛ لفتح وحماس والكل الوطني والإسلامي، وكان وحدوياً اجتهد أن يجمع صف الجميع ويحفظ لكل صاحب حقٍ حقه.. أبو عمار الذي اختلفنا معه حول بعض اجتهاداته السياسية ووجهنا له كقيادات فصائل انتقادات لاذعة تحملها ولم يقطع العلاقة مع أحد.. أبو عمار هو أيقونة وطنية يجب أن نحفظ سيرته ومسيرته وألا نسمح خارج سياق التقييم بالتعرض له، وعلى اللجنة الوطنية أن تضع ضوابط تلزم الجميع باحترامها لحماية مسيرتنا التاريخية والنضالية؛ فالرموز الوطنية والإسلامية يجب ألا يُسمح لأحد المساس بها والتطاول عليها مهما علا قدره التنظيمي ومكانته السياسية.. إن الحفاظ على نسيجنا الاجتماعي وعروتنا الوطنية قوية ومتماسكة هي قضية لها اعتباراتها، والتي تفرض على الكل الوطني والإسلامي احترامها، ويجب ألا يكون هناك أحد فوق المسائلة.
شكراً للتوضيح الذي أصدره المجلس التشريعي بخصوص القضية التي أثارها الإعلام، والتي تمَّ فهمها بأنها إساءة للأخ الشهيد ياسر عرفات، ولكل من حاول تهدئة الأمور وقتل الفتنة في مهدها. إن فتح وحماس هما في أمسِّ الحاجة لبعضهما البعض، وما ينتظرنا من تحديات يفرض علينا اللقاء والاتفاق واجتماع الصف.
وفيما وقع من "زلة لسان" في غير سياق القصد، أعتذر لكل إخواننا في حركة فتح، ولشهيدنا الأخ ياسر عرفات، ولكل شهداء شعبنا العظيم، والعفو عند كرام الناس مأمول.
وأخيراً.. نعم؛ نحن قد نخطئ - أحياناً – بحق بعضنا البعض، وقد تزل الألسنة، ولكن علينا إذا حدث ذلك أن نعتذر، من أجل الحفاظ على وحدتنا الوطنية وتماسك المواقف والسياسات، والناس والفصائل سوف تُقدر وتتفهم، أما الإصرار والمكابرة فهي بمثابة "كبوة عاثرة" نبرأ إلى الله منها.
في كتابي "ياسر عرفات: ذاكرة لا تغيب"، قدَّم الكثير من الشخصيات الإسلامية السياسية والبرلمانية والإعلامية كلاماً رائعاً في الأخ القائد ياسر عرفات، ومنهم الأخ الدكتور أحمد بحر والدكتور ناصر الشاعر، وعشرات الأقلام من إعلامي وأدباء حركة حماس، وهي شهادة تُحفظ للقائد الشهيد (أبو عمار) في سجل أعماله وميزان حسناته، وستظل شهادة هذه الأقلام كذلك هي ما ستحفظه أجيال الفلسطينيين للقائد أبي عمار، والذي قالوا فيه: "نعم؛ قد نختلف معه، ولكن لا نختلف عليه".
رحمك الله يا أبا عمار.. فقد كنت بمقامك العالي، وبمكانتك الغالية روح الشعب والقضية، وكنت عنوان الوطن والهوية.