وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

العلاقة المقلوبة بين السلطة الفلسطينية و م.ت.ف

نشر بتاريخ: 24/05/2016 ( آخر تحديث: 24/05/2016 الساعة: 11:54 )
العلاقة المقلوبة بين السلطة الفلسطينية و م.ت.ف
الكاتب: فتحي كليب
1 - إذا كانت م.ت.ف قد إستمدت شرعيتها ومكانتها التمثيلية، من التوافق الوطني بين قوى وتيارات الشعب الفلسطيني، ومن نضالها المتواصل وحصولها على شرعية سياسية وقانونية وثورية في آن مكّنتها من التمتع بآلية قانونية كحركة تحرر وطني، فإن القرار الصادر عن الرئيس محمود عباس، على خلفية التباين السياسي، بإلغاء الحقوق المالية الطبيعية في الصندوق القومي لفصائل أساسية تعتبر من أركان منظمة التحرير، إنما يؤشر إلى مخاطر تتجاوز المسألة المالية لتمس المكانة السياسية للمنظمة وللشرعية التي تكرست في إطارها على مدار سنوات النضال الفلسطيني..

فقرار الرئيس جاء تتويجا لسلسلة من التحولات والتغييرات السياسية المدمّرة التي عملت بعض الاطراف الاقليمية والدولية على إدخالها على منظمة التحرير وبنيتها. جزء من هذه التغييرات فرضتها ظروف موضوعية، لكن الجزء الاكبر منها جاء بسياسة واعية ومدروسة لابقاء منظمة التحرير جسماً بلا فعالية وبلا قدرة على التأثير في الاحداث. ويمكن ملاحظة ذلك منذ اللحظات الاولى لعملية التسوية السياسية التي أفردت هامشا تم التعاطي معه وفقا لأجندة أمريكية واضحة. فالمفاوضات السرية التي أنتجت إتفاق اوسلو تمت بإشراف القيادة المتنفذة للمنظمة من وراء ظهر إئتلاف فصائل م.ت.ف، وكذا الأمر بالنسبة للإتفاقيات اللاحقة. وبقيت م.ت.ف هي الطرف المعني بالمفاوضات حتى ولادة خطة خارطة الطريق على يد الرباعية الدولية (ابريل/ نيسان 2003) التي نقلت دفة الحكم من يد المنظمة إلى يد السلطة الفلسطينية.

إن عملية الإنتقال هذه لم تولد فجأة، بل سبقتها سلسلة من التداعيات السياسية السلبية، أملتها آليات العمل داخل النظام السياسي الفلسطيني. ورغم أن العلاقة بين م.ت.ف والسلطة من المفترض أن تقوم نظرياً باعتبار الأولى هي مرجعية الثانية، ورغم أن المنظمة، كموقع تمثيلي وقانوني، أمّنت الغطاء للمفاوضات، إلا أن واقع الحال كان يسير بعكس ذلك. فآليات العمل اليومي كانت تهمّش المنظمة لصالح تعزيز أوضاع السلطة.. وفي هذا السياق لعبت مجموعة من العوامل دوراً في إحداث هذا الخلل: فرئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة هو نفسه رئيس دولة فلسطين ورئيس السلطة، وهو الرقيب والآمر الناهي في كل صغيرة وكبيرة، ولا فواصل بين مختلف صلاحياته الواسعة. وبالتالي لا سلطة – من الناحية العملية - لأي هيئة على مراقبته أو محاسبته على أعماله، وبالتالي فهو يملك هامشاً واسعاً من المناورة يمكّنه من تهميش كل الهيئات لصالح دوره المنفرد؛ وهذا عكس النظام الأساسي لمنظمة التحرير القائم على صيغة إئتلاف وطني شامل وقرارات تتخذ من الهيئات الرسمية تضحى الأساس السياسي والقانوني الملزم لرئيس وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير . 

2- من العوامل التي لعبت دوراً في تهميش المنظمة لصالح السلطة أن الثقل المالي إنتقل إلى رئاسة السلطة ومجلس وزرائها ومعها كافة الأجهزة الأمنية والإدارية والخدمية في الضفة وغزة، بينما كانت م.ت.ف تشكل كياناً معنوياً تسلل الشلل إلى مؤسساتها وإتحاداتها الشعبية والمهنية حتى صارت هيكلاً يتآكله القدم ويعشش في أركانه الفراغ والبطالة السياسية وفق سياسة واعية مارستها قيادة السلطة، لدرجة أن جميع الهيئات المركزية في المنظمة سواء على مستوى المجلسين الوطني والمركزي أو على مستوى اللجنة التنفيذية ليست مُطلَّة ولا مطَّلعة على موازنات منظمة التحرير التي عادةً ما تصرف وتنفق بقرارات إرتجالية وفردية. ورغم التأكيدات اللفظية على أن المنظمة هي المرجع للسلطة، وأنها هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأن السلطة معنية فقط بالشأن الفلسطيني في الضفة والقطاع، إلا أن آليات العمل اليومية بقيت تفعل فعلها في نقل مركز الثقل إلى السلطة، وفي تهميش م.ت.ف ودورها السياسي والنضالي العملي.

شهدت هذه العملية إنعطافة ذات دلالة مع التطويرات التي أدخلت على النظام السياسي الفلسطيني، وتمثلت بإحداث منصب لرئيس الوزراء، منفصل عن منصب رئيس السلطة بكل ما تطلبه ذلك من تعديلات للقانون الأساسي للسلطة الفلسطينية. غير أن هذا التعديل على رأس الهرم القيادي للسلطة الفلسطينية لم يقد عملياً إلى تقليص صلاحيات رئيس السلطة، باستثناء فترة المساكنة بين فتح وحماس التي ترأست حكومتين: الأولى كانت محض حمسوية (الحكومة العاشرة) والثانية (الحكومة الحادية عشرة) كانت إئتلافية أطاحتها العملية الإنقلابية (14/6/2007) على يد حماس نفسها.

3- على خلفية إتفاق أوسلو وفي ضوء القرار بتشكيل السلطة الفلسطينية، طرأ تغيير كبير على النظام السياسي الفلسطيني وبرزت إلى الواجهة معطيات فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع وتعززت بنزوع إحكام القبضة على القرار السياسي الفلسطيني وتهميش دور القوى الأخرى وتأثيرها. ولم يكن صدفة أن إتفاقية اوسلو وفّرت لرئيس السلطة صلاحيات واسعة أقرت جميعها في ظل حالة من الإنقسام السياسي الفلسطيني الذي إستتبع إنفراط عقد الائتلاف الوطني في م.ت.ف، وأفضى – تالياً - إلى إضعاف موقع منظمة التحرير كمؤسسة تمثيلية جامعة.

هذه التطورات في العلاقة ما بين منظمة التحرير كحركة تحرر وطني والسلطة الفلسطينية التي لها وظائف معروفة في إطار الحكم الإداري الذاتي على جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 67، قاد موضوعيا إلى إنقلاب على مستوى إستراتيجية العمل الوطني الفلسطيني. فعلى صعيد م.ت.ف أصاب التصدع أوضاع المنظمة وقيادتها الرسمية التي أخذت تبحث لنفسها عن مكان في عملية التسوية، بعد أن ساد إعتقاد لدى أوساط واسعة من هذه الفئة بأن الادارة الامريكية باتت قادرة على فرض رؤيتها بمعزل عن حقوق ومصالح شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني..

حاول مهندسو إتفاق أوسلو إيجاد الوسائل الكفيلة بتمكين السلطة الناشئة من شق طريقها دون عقبات سياسية وشعبية، فتم اللجوء إلى تجديد الشرعية عبر اللجوء لانتخابات إعتمدت أنظمة وقوانين إقصائية كرَّست للنظام الجديد السلطة الفردية في القرار والقيادة، نظام يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة (فاقمت من نزوع النظام التسلطي تلك الإلتزامات المترتبة عليه بفعل الإتفاقات المعقودة)، ولا يخضع لأية مساءلة من أية جهة كانت، تشريعية كانت أو تنفيذية، ما شكل تجاوزاً صريحاً على إعلان الاستقلال (15/11/88) الذي أشار بوضوح إلى النظام الديمقراطي البرلماني كسمة ملازمة للنظام السياسي الفلسطيني .

4- إن صيغة العمل السياسي المؤطرة باتفاقات اوسلو وبعملية تفاوضية هي الاطول في التاريخ لم تعد تجدي نفعا، بحيث باتت بنظر الكثيرين عنواناً لتصفية القضية الفلسطينية بشكل تدريجي. وبالتالي فإن الواقع السياسي الراهن أصبح يلعب دوراً معرقلاً أمام إمكانية أي عملية نهوض مستقبلية تسعى إلى التغيير. وإذا لم يأت التغيير من داخل الحالة السياسية، خاصة على مستوى السلطة والمنظمة، فإن ثقل المعاناة سيفرض تغييراً من خارجها.. كون النظام السياسي الحالي غير قادر على إستيعاب أية تغييرات، لأنه مصمم على مقاس عملية تفاوضية إستنفذت أغراضها وإنتهت مفاعيلها السياسية..
إن إستعراض هموم ومشكلات التجمعات الفلسطينية المختلفة، يفرض على القيادة السياسية نظرة أكثر شمولية في التعاطي مع واقع هذه التجمعات خاصة وأن بعضها عرضة لمخاطر وطنية كبرى تتخطى الوقائع الجغرافية لتطال المشروع الوطني برمته .. من هنا تكمن أهمية الدعوة لتجديد بنية ومسار حركتنا الوطنية في إطار صيانة المشروع الوطني التحرري..

إن ما ينبغي أن يسري على النظام السياسي الفلسطيني ليس قوانين السلطة والمعارضة ولا آلية الأكثرية والأقلية ، بل يجب على الكل الفلسطيني أن يندرج في السياق العريض لحركة التحرر الوطني، في مواجهة الاحتلال والاستيطان وأي صراع على السلطة على خلفية الوهم أننا تجاوزنا مرحلة التحرر الوطني، لن يقود سوى إلى الهيمنة وإلى فساد الأجهزة والمؤسسات، وأيضا إلى الانقسامات التي لا زالت تتوالى فصولاً.

5- تدلل الخبرة التاريخية بأن الثورات وحركات التحرر الوطني التي إبتعدت وتراجعت عن قوانين الائتلاف الوطني العريض الأساسية، حصدت الكثير من التراجعات والكوارث، ووصلت إلى النفق المسدود وإلى الانهيار والفشل التام، وفي تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا، وفي تاريخ حركات التحرر العربية، أمثلة موجعة تؤكد ذلك.

رغم أن الخيار الأساس بالنسبة للقيادة المتنفذة ما زال هو الإستراتيجية القائمة على المفاوضات، لعجزها بحكم تركيبتها وتوازناتها أن تعتمد خياراً آخر.. أو أن تضع خيار الوحدة الوطنية بنفس الاولوية التي تطرح فيه قضايا أخرى أقل شأنا .. أو أن تلجأ إلى خيار تطوير النظام السياسي الفلسطيني بما يمكنه من حمل أعباء أي مواجهة مستقبلية؛ فإن ذلك لا يجب أن يحجب الانظار عن ضرورة النضال أيضا من أجل تطوير النظام السياسي الفلسطيني بمختلف تشكيلاته، دون أن يغيب عن البال أنه وفي الصراع ضد الاحتلال وبالتداخل معه، ثمة صراع آخر يدور حول إعادة صياغة بنية مؤسساتنا الوطنية ووظائفها. فالصراع إذن هو من أجل إستعادة منظمة التحرير بتكوينها الائتلافي التوافقي العريض وبرنامجها الوطني المشترك الذي يعكس هموم وتطلعات الكل الفلسطيني .