وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

لماذا ترفض إسرائيل المبادرة الفرنسية؟

نشر بتاريخ: 24/05/2016 ( آخر تحديث: 24/05/2016 الساعة: 15:02 )
لماذا ترفض إسرائيل المبادرة الفرنسية؟
الكاتب: د. أسامة عثمان
بعد أن رفضت إسرائيل، متمثِّلةً في حكومة بنيامين نتنياهو المبادرة الفرنسية، تدارَك مدير عام الخارجية الإسرائيلي "دوري غولدي" الرفض باشتراط (تعجيزيٍّ بالطبع)، وهو تضمنُّها اعترافا فلسطينيا بإسرائيل كدولة يهودية، حينها (قد) (تخفِّف) إسرائيل من معارضتها للمبادرة (!)وشرط الاعتراف بإسرائيل دولةً يهودية تعجيزيٌّ على الفلسطينيين؛ لأنه يعني ضمنا تخليًّا عن حق العودة ، بل يهدِّد الوجود العربيَّ في "إسرائيل".

شِنْشِنَةٌ نعرُفها من نتنياهو:التملُّص والمراوغة، دون التجرُّؤ، أو الرَّغبة، في تقديم أيِّ مواقف جديدة، تضرُّ بتحالفه مع قوى اليمين المتطرِّف الذين هم جاهزون للمزاوَدة عليه، لدى غُلاة المستوطنين الذين يمثلهم "البيتُ اليهودي" الذي يتحسَّب له نتنياهو، والذي قد يستخدمه ذريعةً للتخلُّص من الضغوط الدولية، إنْوُجدت، ولامتصاص الانتقادات الدولية لموقفه المتصلِّب، وللتملُّص من المسؤولية التي تزداد وضوحا على تسبُّبه في تعطُّل العملية السياسية.
فضلا عن استخدامه الذرائع التي لم تعد كافية، من قبيل أنَّ تقديم إسرائيل تنازلات، وانسحاباتها لا توفِّر لها بالضرورة الأمن؛ استدلالا بالانسحاب الإسرائيلي الأُحاديِّ من قطاع غزة، عام 2005م، علما بأن الحديث يدور عن حلٍّ دائم، وعن ترتيبات أمنية، ضامنة للأمن، وعن كيان فلسطيني، كانت بدايته: السلطة الفلسطينية جادَّة ومثمرة في تحسين الأوضاع الأمنية، في الأراضي التي لا تزال محتلة، وكان لها دور مشهود بمنع تفاقم الاحتجاجات و الهبَّة الفلسطينية إلى انفجار خارج عن السيطرة.

ومن أجل إحراج الطرف المبادِر، وهو فرنسا التي التقى وزير خارجيتها، جان مارك إيرولت،بالمسؤولين الإسرائيليين في القدس الأحد الماضي (15-5)،الذين بادروه بموقف هجوميٍّ غاضِب على موقف باريس التي صوّتت في منظمة اليونسكو لصالح قرار "اعتبر المسجد الاقصى اسلاميا خالصا "، "دون أيِّ علاقة دينية لليهود بهذا المكان" .(وهو ما يشي بتراجُعٍ ملموس لإسرائيل دوليا).
ومع العلم أن المبادرة الفرنسية -والتي تقوم على أساس "تثبيت حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 مع تبادل أراضٍ بين الطرفين، وجَعْل القدس عاصمةً مشتركة بين الدولتين"، لم ترفضها السلطة الفلسطينية، وترفضها إسرائيل- هذه المبادرة تقترب جدا من الرؤية الإسرائيلية اليمينية للحل، فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية على الحدود بين الكيانين، بما في ذلك تواجُد طويل الأمد لقوَّات الجيش الإسرائيلي في منطقة الأغوار على الحدود الأردنية الفلسطينية، مع نشر قوَّات دولية، وبحيث تكون دولة فلسطين منزوعة السلاح تماما. وكذلك فيما يتعلق باللاجئين حيث لا التزام بقرار 194 الذي ينصُّ على حق العودة ، وأما القدس فيتحدث عنها المشروع الفرنسي كمدينة موحَّدة، وكعاصمة مشتركة.

ويعكس هذا الاستدراك الإسرائيلي، على المبادرة استشعارا بالمأزِق الحقيقي الذي تمرُّ فيه إسرائيل على صعيد انسداد الأفق، وانعدام الرؤية السياسية، وما يصاحب ذلك، أو يتسبَّب به، من إدانة، وعزلة دولية، قد تدفع حتى أمريكا الحليف الإستراتيجي الأقوى والمطلق لإسرائيل، لرفع بعض الغطاء عنها في المحافل الدولية، وفي الأمم المتحدة.
أمَّا أنها تواجه مأزقا سياسيا، فكونها تتصرَّف في قضيةٍتهدِّد استقرار المنطقة- في أقل تقدير- بمنطق داخلي ضيِّق، بل بمنطق دينيٍّ متطرِّف، فنتنياهو يواجه لومًا، وتحذيرات، من المعارضة الإسرائيلية؛ لكونه يتابع دون كبير تأثير، الأحزاب المتحالفة معه مِن اليمينين؛ ما يفضي إلى التفكير في خطوات أحادية (فيما لو أمكن تنفيذها) ستشكِّل معضلة سياسية إستراتيجيةلإسرائيل، مِن مِثْل ضمِّ (المناطق)، أو الضفة الغربية، ما يعني فتح صراع ليس هذا وقته؛ كونه، بحسب مستشار الأمن القومي السابق، يعقوب عميدرور،سيؤدِّي إلى شجب العالم لإسرائيل، عندما تستمرُّ في تهويدها للقدس، وتوسيعها؛إذ ستُعامَل القدس كأيِّ مستوطنة على تلَّة في الضفة الغربية. كما سيعني- وفق عميدرور-مسؤولية إسرائيل عن تصفية كلِّ احتمال للمفاوضات المستقبلية، وهو ما يعني قرارا بـ دولة ثنائية القومية

وعودا إلى المبادرة الفرنسية، أو الدور الفرنسي، تاريخيًّا، لم يكن ثمَّة ترحيب إسرائيلي بغير الدور الأمريكي، ولم يكن ثمَّة ترحيب بالدور الفرنسي تحديدا، ولا سيما حين يتقدم بمواقف ومقترحات بعيدة البَوْن عن مواقف إسرائيل، كالمطالبة بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران، بل كان مسؤولون إسرائيليون لا يتورَّعون عن تلقّي نظرائهم الفرنسيين بالجفاء، أو بمواقف ينقصها الاحترام الذي تتطلَّبُه الأعراف الدبلوماسية، كما أجبرت الضغوط الإسرائيلية الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في أواخر 2013 على التراجُع عن رفضه إلقاء خطاب في الكنيست، بعد أن صرَّح رئيس الكنيست،يولي إدليشتاين بـ" أنه يرفض استقبال الرئيس الفرنسي قائلا:"مَن يرفض أن يخاطبنا لا حاجة لنا باستقباله".
وبعد أن عدَل هولاند عن موقفه، وألقى خطابا أمام الكنيست، لم تكن مواقفُه على مزاج الإسرائيليين، ولا سيما اليمين بالطبع، إذ دعا فيه إلى وقف البناء في المستوطنات، وتطبيق حل الدولتين، وأن تكون القدس عاصمة مشتركة؛ فلم يشفع لهولاند انتماؤه إلى الحزب الاشتراكي الداعم لإسرائيل تاريخيا، كما لم يمنع العناقُ الحارّ مع المسوؤلين الإسرائيليين، والخطاب الذي ألقاه في الكنيست، هولاند أن يصرِّح بما لا تحبُّه إسرائيل.

ينسجم التميُّز في الرؤى والمواقف الفرنسية مع الخطِّ القومي التاريخي الذي يرفض التبعيَّة، والذي جسَّده الرئيس الأسبق، شارل ديغول، وإن كان ثمة تباينات في مناصرة إسرائيل في التفاصيل؛ تبعا للحزب الحاكم وتوجُّهاته. كما تتطلب مصالح فرنسا الاقتصادية والثقافية وغيرها في المنطقة العربية، كذلك هذا القدر من الابتعاد عن التطابق التام مع المواقف الإسرائيلية، أو حتى مع المواقف الأمريكية.

ولا يخفى أن الموقف الأوروبي، عموما، أبعَدُ عن الموقف الأمريكي الممالِئ لإسرائيل، فالرأي العام الأوروبي المؤثِّر، بطبيعة الحكم الديمقراطي، على توجُّهات حكوماته، أكثر (تفهُّما)- بالقياس إلى أمريكا- للقضية الفلسطينية، لذلك تعمل إسرائيل بجديَّة لمواجهة هذا الوضع غير المريح، بل، والمقلق، ولا سيما، وهي تزمع على الاستمرار في هذه الحالة الاحتلالية الاستيطانية، ومِن أحدث ذلك ماكشفه "منتدى التواصل الأوروبي الفلسطيني""عن تقرير يرصد جوانب مثيرة من هُويَّة بعض منظمات "اللوبي الإسرائيلي في الاتحاد الأوروبي"، ويقدِّم بيانات موثَّقة عن هوية كثير من مجموعات الضغط الأوروبية التي تتلقَّى تمويلاً مباشراً من اللوبي الإسرائيلي في أوروبا، مقابل دعم الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع في الضفة الغربية. كما يكشف التقرير عن الضغط الذي يمارسه اللوبي المُؤيّد لإسرائيل على أعضاء البرلمان الأوروبي للحيلولة، دون أيِّ قرار لا يتناسب ومصالح إسرائيل، مثل فرض العقوبات، أو المقاطعة، أو حتى مجرد الإدانة،في ما يتعلق بانتهاكاتها لحقوق الإنسان."

على الرغم من أن العلاقة الإستراتيجية بين فرنسا وإسرائيل، تاريخيا كذلك، ثابتة، ولا تنكرها الأخيرة، إذ إن فرنسا دعمت إسرائيل، منذ وقت مبكِّر سياسيا، ثم عسكريا بالسلاح الخفيف، ثم الثقيل، وتُوِّج ذلك بتزويدها بالمفاعل النووي باليورانيوم، عشية العدوان الثلاثي على مصر 1956م، ولذلك صرَّح شمعون بيرس،مهندس المشروع النووي، أثناء زيارة له إلى باريس في 2008م :" لدى قيام إسرائيل لعبت فرنسا دورا رياديًّا. بفضلها تمكنَّا من حيازة أسلحة للدفاع عن أنفسنا (...) لا أعرف أي بلد آخر ساعد إسرائيل، كما ساعدتها فرنسا".لكن إسرائيل- كما هو مشتهر، لا تقف عند هذه المواقف، ولا تدفعها تحالفاتُها إلى القبول بما لا يتوافق مع رؤيتها، أو تراه يحجِّم وجودَها وخططها التوسُّعيَّة، ما أمكنها ذلك.