|
أم جهاد: تماسك أخلاقي في مواجهة أعباء النكبة
نشر بتاريخ: 01/06/2016 ( آخر تحديث: 01/06/2016 الساعة: 15:09 )
الكاتب: بسام الكعبي
طلقة حاقدة أطفأت أربع عشرة شمعة، وقَطَعتْ الطريق على اكتمال قالب كعكة عيد ميلاد، يسحرها إسم جهاد سمير أبو ربيع، عندما استهدفته بنادق الاحتلال برصاصة في رأسه ظهيرة الرابع عشر من تشرين أول 1998، وقبل يوم واحد فقط من عيده الرابع عشر!
تناثر دم البريء تحت نافذة صفه الاعدادي في مدرسة ذكور مخيم الجلزون شمال رام الله، ليشق الرصاص طريقاً واسعة معبدة بالمعاناة أمام أفراد أسرته، وبخاصة والدته رابعة عمار (60 سنة) التي شهدت غيبوبة بكرها جهاد، وموته البطيء طوال أربع سنوات ونصف، حتى رحيله شهيداً تحت جفاف دمعها في الثالث عشر من آذار 2003. في منتصف الشهر الثاني لبدء العام الدراسي الجديد ودخوله عتبة الصف الثالث إعدادي، تسلل جهاد من مدرسة لاجئين تقف حصناً منيعاً بمواجهة مستوطنة (بيت إيل)، وتطل بوابتها الكبيرة على شارع رئيسي يضبط ايقاع حركة السيارات بين رام الله ونابلس، وتنال فيه سيارات المستوطنين الرجم بالحجارة. غادر جهاد في ذلك اليوم المشؤوم صفه المدرسي تحت نار جنود يتطاير في كل اتجاه "لحراسة" المستوطنين وسياراتهم من حجارة الفتيان الصغار! رصاص الجلاد بمواجهة حجارة الضحية: معادلة قاسية تحكم القاتل والمغدور! اختبأ الفتى بجوار سور يفصل مخيم الجلزون عن الشارع الرئيس. نزل قناص من الجيب العسكري، وأطلق النار باتجاه الصغير عندما حاول التقاط نظارته الطبية التي سقطت عن عينيه، فأستقرت الطلقة في الرأس، وغيّبت حاجته لعدسات طبية فقط، وأجبرته على رعاية طبية مشددة لأربع سنوات ونصف مجبولة بألم لا يحتمل! نُقل الفتى الجريح إلى مستشفى رام الله في غيبوبة كاملة، وبسبب خطورة اصابته المباشرة، قررت إدارة المشفى تحويلة فوراً إلى مستشفى "هداسا" في القدس الغربية: إسرائيلي يقتل وآخر يعالج! تحاول المؤسسة الإسرائيلية في هذه المفارقة العجيبة إثبات تصنيفها في إطار نمطية المجتمعات الطبيعية التي يتناحر فيها الخير والشر، قبل أن "يدرك" أحد سقف الشر المرتفع الذي استهدف أبناء شعب فلسطين، ومنهم عائلة أحمد عمار، والد أم جهاد، التي أجبرت تحت تهديد السلاح على الهجرة القسرية من دير أيوب واللجوء إلى بلدة يالو، قبل النزوح مرة ثانية إلى مخيم قلنديا. جريمة النكبة وكارثة النكسة مع اندلاع حرب فلسطين عقب رفض قرار التقسيم الصادر سنة 1947 بمنح الأقلية اليهودية أكثر من نصف مساحة فلسطين الانتدابية، خَسر العرب نتائج الحرب، وتعبدت الطريق واسعة أمام النكبة الكبرى. رحل أحمد عبد الله عمار، والد رابعة، مع زوجته وطفلتيه جميلة وآمنة من دير أيوب غربي القدس، واتجه شرقاً نحو بلدة يالو المجاورة. لجأ أحمد مرغماً إلى بلدته "الجديدة" وأقام فيها طوال عشرين عاماً، وتحت ثقل نكبته شهد الصرخة الأولى لمعظم أطفاله في مسقط رأسهم "الجديد"، ومنهم رابعة التي ولدت صيف 1956 وحملت إسمها باعتبارها رابعة الشقيقات. ظل الوالد أبو جميل حريصاً طوال عشرين عاماً على حراثة أرضه الزراعية الواقعة على خط "الهدنة" في الأرض التي تسمى "الحرام"؛ الممتدة بين أطراف قريتي دير أيوب ويالو المتلاصقتين، حتى نشوب حرب الخامس من حزيران1967 فر أبو جميل مع أفراد عائلته إلى مخيم قلنديا جنوب رام الله، بعد قيام الاحتلال بتنفيذ عملية تطهير عرقي فوري عقب حرب حزيران، مستهدفة بالابادة قرى اللطرون الثلاث: يالو، عمواس وبيت نوبا. مَسَح الاحتلال البيوت ومعالم القرى، وحول المنطقة سنة 1970 إلى "محمية طبيعية" أطلق عليها إسم "كندا بارك" أو حديقة كندا بتبرعات كندية سخية! ونهبت "الحديقة" الحيّز المتاح للمساكن التي كانت قائمة في عمواس وأجزاء من حيّز يالو، فيما أقام الاحتلال مستوطنة "ميفو حورون" على أراضي بيت نوبا، وأنشأ في الحديقة مرافق ترفيهية وممرات للمشاه ولوحات تحمل أسماء المتبرعين، وشق سنة 1979 طريقاً سريعة اخترقت أراضي القرى الثلاث لتربط بين مدينتي تل أبيب والقدس! كانت رابعة في الحادية عشرة من عمرها عندما استقرت مع عائلتها في مخيم قلنديا، وقد اختبرت ثقل النزوح للمرة الأولى، فيما اختبر والدها قسوة اللجوء للمرة الثانية ليشهد مصائب النكبة وكوارث النكسة! وفي سياق الشرط البشري للبقاء والمواجهة؛ أنجب اللاجئ النازح أربعة أبناء وثماني بنات، قبل رحيله منذ عشر سنوات ليدفن في مقبرة مخيم قلنديا بعيداً عن بلدته ومسقط رأسه دير أيوب. أنهت رابعة دراستها الاعدادية في المخيم، وانتقلت للعمل في مشغل للخياطة في بلدة بيت صفافا غربي القدس المحتلة. تزوجت عام 1983 من سمير أبو ربيع، شقيق إحدى زميلاتها في مشغل الخياطة، وانتقلت من مخيم قلنديا للعيش في مخيم الجلزون مع زوجها العامل (62 سنة). استقبلت بكرها جهاد في الخامس عشر من تشرين أول1984 ثم أنجبت جمانة وجنان وآلاء ومجد. مع نشوء السلطة الفلسطينية عقب اتفاقيات أوسلو 1993 التحقت موظفة بدائرة الخدمات في وزارة الإعلام. تلقت أثناء الدوام الوظيفي نبأ اصابة نجلها بطلقة في الدماغ؛ مزقت كل الأعصاب وأقعدته بشلل نصفي. خظورة الاصابة دفع طاقم مستشفى رام الله لاتخاذ قرار بنقل جهاد إلى مستشفى "هداسا" في القدس الغربية، ومكث في غيبوبة طوال شهرين ونصف، قبل تحويله إلى مشفى "ايلين" للعلاج الطبيعي. حرصتْ أم جهاد على زيارة نجلها يومياً بعد أن نالت اعفاء من الدوام الوظيفي براتب منتظم؛ إثر مذكرة قدمها النائب مروان البرغوثي إلى الرئيس ياسر عرفات، شرح فيها ضرورة ملازمة أم جهاد لنجلها الجريح. استعاد الفتى وعيه بالتدريج، وبعد ستة أشهر على الاصابة نطق أول كلمة: يمّا. كانت والدته بجواره على سرير الشفاء، لم تصدق حواسها. كانت تظن أن الصوت صدى لرغبتها، وتأكدت من الحقيقة بتكرار الأحرف الثلاثة النبيلة مراراً، وظلت الكلمة الوحيدة التي ينطق بها طوال سنوات معاناته. يمّا كلمةٌ يتيمةٌ كانت تسمعها لتجدد دموع مؤمنة بمشيئة رب العباد. بعد تزايد تكاليف العلاج في المستشفيات الإسرائيلية، قررت وزارة الصحة نقل جهاد إلى مستشفى الجمعية العربية في مدينة بيت جالا جنوب الضفة الغربية، ومكث فيه سنة كاملة، وحرصت والدته على زيارته يومياً، لكن مع صعوبة التنقل من وسط الضفة إلى جنوبها، قررت زيارته مرة واحدة كل يومين. عاد جهاد إلى بيته، بعد سنة ونصف من العلاج في المستشفيات، بوضع صحي صعب جداً: غياب القدرة على النطق. فقدان إحدى عينيه وضعف حاسة البصر. شللٌ نصفي وانهيارٌ عضلي. غياب القدرة على تناول الأكل بمفرده ودون مساعدة. عجزٌ عن القيام منفرداً بواجباته الحسيّة الملموسة من حمام وغيار ملابس وحاجاته الحيوية. أضاف الوضع الصحي القاسي أعباء جديدة على أم جهاد وأثقل حياتها بالمرارة، وراكم عليها الأمراض؛ لتكتشف بعد رحيل نجلها في آذار 2003 إصابتها بآلام شديدة في فقرات الظهر؛ تحاصر حركتها وتمنعها من تأدية واجباتها المهنية في المنزل والمكتب. قرر الأطباء إجراء عملية جراحية خطيرة أجبرتها على البقاء في البيت عدة أشهر. مع تقاعدها من وظيفتها الحكومية خلال أيام قليلة، تغادر مكتبها بثقل أوجاع تحرمها من المشي والتنقل بسهولة، وتقيّد قدرتها العضلية في إنجاز مهمات ربة منزل وعاملة؛ تتطلب جهداً عضلياً في المكتب والبيت. تلقت أم جهاد أول راتب حكومي بقيمة 700 شيكل (250 دولار أميركي)، ثم تدرّج راتبها طوال 22 سنة ليبلغ 2270 شيكل (550 دولار أميركي) بما فيها بند المواصلات العامة، ويقدر أن يهبط الراتب مع تقاعدها في منتصف حزيران 2016 إلى النصف تقريباً. وفرتْ مؤسسة الشهداء في منظمة التحرير راتباً شهرياً لذوي الشهيد جهاد بدأ بمبلغ 600 شيكل وتدرج حتى وصل 1400 شيكل، وتقر أم جهاد أن راتب نجلها الشهيد ساهم بتغطية نسبة مقبولة من التكاليف الشهرية لأعباء أسرة كبيرة تحتاج مصاريف يومية ضرورية، وأقساط تعليم ثلاث بنات في الجامعات والكليات المتوسطة قبل مرحلة الزواج والانجاب. نسف بيت العائلة تمكن أشقاء رابعة من استكمال بناء طابقين فوق منزل العائلة في مخيم قلنديا، واستقر في الطابق الأرضي والدتها وشقيقتها حسيبة، وأقام شقيقها لؤي مع أفراد عائلته في الطابق الثاني، وحجز الطابق الثالث شقيقها ابراهيم وأفراد عائلته. تمكن الشقيقان ابراهيم ولؤي من بناء منزلين في بلدة كفر عقب المجاورة للمخيم، وتعاقد ابراهيم مع الأسير المحرر محمد حسني أبو شاهين (30 سنة) لاستئجار الطابق الثالث، وأقام فيه أبو شاهين منذ خمس سنوات مع زوجته وطفلتيه. أعاد الاحتلال صيف 2015 اعتقال أبو شاهين بتهمة النشاط المسلح، وجهزت النيابة العسكرية الإسرائيلية لائحة اتهام بحق الأسير أبو شاهين، وطلبت للأسير حكماً بالسجن مدى الحياة بتهمة قتل مستوطن قرب قرية دير ابزيع غربي رام الله، قبل أن تقرر هدم منزله الذي يقيم فيه بالأجرة ولا يمتلكه! اجتاحت قوات عسكرية مخيم قلنديا فجر السادس عشر من تشرين ثاني 2015، وشرعت بتجميع سكان حارة الجبل في ملعب كرة القدم قبل قيامها بزرع الديناميت في الطابق الثالث وتفجيره. تطايرت حجارة المبنى، وتصدعت جدران ثلاثة منازل مجاورة يمتلكها أبناء المرحوم كامل شحام ولم تعد صالحة للسكن. اشتبك جنود الاحتلال مع شبان المخيم؛ فاستشهد الشابين ليث أشرف مناصرة (21 سنة) وأحمد صبحي أبو العيش (28 سنة) وشُيّع الشهيدان إلى مثواهما الأخير في مقبرة قلنديا عصر يوم الاجتياح العسكري. اضطرت والدة رابعة للاقامة في بيت نجلها لؤي، عندما تحولت طوابق المنزل إلى ركام بفعل التفجير، وتشتت عائلة أبو جميل للمرة الثالثة في غضون 67 عاماً منذ النكبة الكبرى: رحيل قسري من دير أيوب إلى يالو، طرد إجباري من يالو للجوء في مخيم قلنديا، شتات جديد في كفر عقب بعد تفجير منزل العائلة! تتأمل أم جهاد بصمت وتحت ضغط أوجاعها، كل المصائب التي عصفت بها خلال رحلة الشقاء منذ ستين عاماً: عذاب طفلة لاجئة من يالو. حرمان التعليم في مخيم قلنديا والانخراط مبكراً في سوق العمل. زواج في مخيم الجلزون. استشهاد بكرها قبل أن يتجاوز الرابعة عشرة. شقاء أربع سنوات ونصف في مطاردته مقعداً من مشفى إلى آخر، وفوق ذلك عبء وظيفي براتب لا يوفر احتياجات أسرة كبيرة، وراتب تقاعدي في الانتظار يعجز عن تسديد ثمن أدويتها. رغم كل هذه المصائب تحتفظ بملامح مؤمنة، تفيض بقيم نبيلة وسلوك أخلاقي رفيع يحظر عليها النفاق، والبحث عن امتيازات نفعية، والركض وراء أصحاب القرار. صاغت رابعة ببراعة خلطتها الشخصية الخاصة؛ فانتزعت بطوعية احترام زملاء وزميلات المهنة، وعثرت على مكانة تليق بها في وجدان معظم الطاقم الوظيفي. كل الأمنيات للصابرة أم جهاد بسنوات تقاعد هادئة ومديدة؛ توفر للأحفاد في طولكرم، وبلدة خربتا بني حارث ومخيم قلنديا؛ فرصة لتعلم الصغار من سلوك جَدة متماسكة لا تشكو في مواجهة الأزمات، وولادة الخيبات، وتزايد النكبات. |