وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

أبو فهمان واللغة العربية

نشر بتاريخ: 05/06/2016 ( آخر تحديث: 05/06/2016 الساعة: 11:02 )
أبو فهمان واللغة العربية
الكاتب: نصير احمد الريماوي
نهض من فراش نومه مع أذان صلاة الصَّبح منفعلا ليس كعادته .. دلف إلى الدورة الصِّحيّة .. حَلَق ووضَّب لِحْيَته الكثَّة .. توضأ .. ثم ارتدى قمبازه وكوفيته وعقاله وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة .. بحث عن سجّادة الصلاة في زوايا بيته حتى عثر عليها .. فرشها أرضا متوجها نحو القِبلَة .. رفع كفتي يديه إلى مستوى صدره قبل إقامة الصّلاة .. دعا دعاء الاستفتاح بخشوع : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك .. ثم أقام الصلاة وأدى صلاة الصَّبح واتبعها بأدعية لإصلاح شأن العرب والمسلمين وحماية ثقافتنا ولُغتنا العربية من عبث العابثين !! وقد اغرورقت عيناه بالدموع تأثرا وغِيرَة عليها وعلى حالنا..

أبو فهمان كهل طاعن في السِّن تعلم منذ صغره القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب من كثر شغفه وحبه للغته الأم مقابل بيض الدَّجاج، وأجبان المواشي، وحبوب الحنطة والعدس أو الذّرة .. وعندما تعلم وفَرسَ القراءة والكتابة صار يعشق الحفظ غيبا من القرآن، ومن الشِّعر والأدب ما لا يحفظه خريج الجامعات في يومنا هذا !!.. وكلما زلَّ لسان أحد من أفرد أسرته وأخطأ في اللغة، أو كلما شاهد طلبة المدارس وهم يمزِّقون كتب اللغة العربية أو الدّينية في الشوارع بعد الامتحانات يَحتَدّ مزاجه، وتثور ثائرته كأنك انتهكت عِرضَه أو حُرُماته!!

ما أن فرغ من صلاته حتى فتح القرآن الكريم وعكف على القراءة من سوره الكريمة حتى انقشع الفجر، وبدأت الشمس ترسل خيوطها الذّهبية وقت الضّحى في أرجاء المعمورة.. طلب من زوجته تجهيز طعام الفطور من خير أرضه وطيوره ومواشيه.. تناول طعامه.. شكر وحمد الله على نِعَمه.. حمل كرسيا .. وضعه أمام المنزل في الحديقة ثم جلس عليه يجول بنظره ويتنقل به من شجرة إلى أخرى كي يستمتع بجمال الطبيعة الصباحي النّدي ..أحضرت له زوجته فنجان قهوة عربية تتصاعد منه رائحة الهيل الجذّابة .. تنحنح ثم عدّل جلسته .. لفّ السّاق بالساق .. ثم استلّ غليونه وعلبة التبغ الشرقي- الذي يزرعه في أرضه- من جيبه وعبّأ تجويفه بالتبغ من فوّهته الدائرية المُتّسِعة .. حَشاهُ حشوا .. حمله براحة كفّة يده اليمنى .. وضعه بين شفتيه .. أشعله بالقدّاحة .. وصار أبو فهمان يستمتع باحتساء القهوة وشرب التبغ معا .. والدخان يتصاعد من غليونه و فمه .. تعدّل مزاجه واعتلى صهوة أفكاره وأطلق العِنان لها لتتفجّر..تراه أحيانا ينفث الدخّان بقوة .. وأحيانا أخرى يُزفر زفيرا ويطلق آهات تحمل في ثناياها الأشياء والمعاني والتعابير الكثيرة والعميقة .. يا ترُى، ما الذي يدور في خُلده ؟؟؟؟ كأن أبو فهمان حامل هموم الدنيا على كَتفيه!!..

أبو فهمان من الغيورين القلائل يعيش الآن في زمن عزَّ فيه الرِّجال الغُيُر، و دائما يقول ويوصي أولاده وأحفاده: حافظوا على سلامة اللغة..هي ثقافتنا..هي جسورنا وتواصلنا .. هي قرآننا .. هي من خاطب الله بها رسولنا .. هي تراثنا وإرثنا .. هي عِرضُنا .. يا أولادي وأحفادي الإنسان بلا لغة مثل الجسد بلا عِظام، أو مثل النّبع بلا ماء .. يظلُّ سقيما لا يستطيع التعبير عن ذاته .. وإذا أردت أن تهدم مستقبل أية أمّة فابدأ بلغتها وثقافتها أولا .. وهذا ما نعاني منه اليوم ..
عندما فرغ أبو فهمان من طقوسه الصّباحية نادى زوجته:

- حاضر يا أبو فهمان، ماذا تريد؟
- أريد منك الذِّهاب لإحضار أحد أحفادي الأذكياء فورا !!
- خير شو في يا رجل؟
- سأحكي لك فيما بعد .. اذهبي الآن الله يرضى عنكِ..
انتعل حذاءه .. شدّ خصره بالحزام ثم وضع ساعة الجيب تحته وتمنطق بعباءته الشَّعبية الصّيفية سوداء اللون المُزيّنة بخيوط ذهبية.. حمل عصاه الخيزران معقوفة الرأس ليتوكأ عليها، فصار أبو فهمان لوحة ناطقة وفي أبهى صورة ..
عندما عادت إليه "أم فهمان" بحفيده .. هالها ما رأت .. وصارت تضرب أخماسا في أسداس
وأثار استغرابها كل هذا الحضور .. وترمقه بنظرات فاحصة تنضح استفسارا..
- صباح الخير يا جدي
- صباح النور والرضا .. ما رأيك في سفرة معي إلى مدينتي رام الله والبيرة أثناء هذه العطلة الصيفية؟
- طبعا أرغب في مُصاحبتك .. لكن لماذا يا جدي؟
- أريد رؤية المدينة في آخر ما تبقى لي من أيام، والأماكن التي كنّا نرتادها في الماضي ..
- العمر الطويل يا جدي .. لأول مرة أسمعك تحكي كلاما وداعيا غريبا !!
- لا تخف عليّ يا جدي صحتي لا بأس بها، لكن لأُريكَ صحة لغتنا العربية التي صارت مهلهلة ومهددة بالذَّوبان والانقراض !!
- كيف يا جدي .. ما فهمت عليك؟ ما قصدك يا جدي، يعني تريد أن تقول بأن الأجداد حافظوا على اللغة بينما الأبناء فرَّطوا فيها ؟؟؟

- ستفهم فيما بعد .. خلينا نتوكل على الله ..
يا مُيسِّر لا تُعسِّر يا الله .. مسك بيد حفيده اليسرى، وبعُكّازه في اليد اليمنى ليتعكَّز عليه، وسارا معا باتجاه الشارع العام ودبيب وطَرْق عُكّازه المتواصل على وجه الشارع برتابة يلفت انتباه السَّامع ويحفِّزه على التفكير بمعنى رجع صدى هذا الصوت المهموم المجروح .. كأنه بذلك يُخبر المارَّة بكارثة كبرى ستحلُّ بنا .. كأن عكّازه يجري حوارا خفيّا، ويُنبئ بما هو آتٍ لا محالة .. وكلما تلاطمت أفكاره وتزاحمت يرتفع صوت دبيبه مع وقع الخُطى .. مثل جرس الإنذار المُبكِّر .. عكّازه هذا هو خليله .. يشاركه التفكير، ويَسنُد جسده المتهالك، ويعينه على المشي، ويدفع عنه الأذى، ويُفسِّر شعوره وما يُبطنه من إحساس وما يعتريه من أفراح وأتراح من خلال طريقة حركته .. فتراه عندما يغضب يضرب الأرض بكعب العكَّاز ضربات متتالية، وعندما يفرح يرفع عكّازه ملوِّحا به من فوق رأسه ويموج ويدور به حول نفسه، كأنهما شخصان في رَجل واحد.. يدبكان معا الدَّبكة الشّعبية الفولكلورية و"أبو فهمان" يردد الأهازيج التراثية التي تطرب لها الأذن ويهتز منها الجسد..

وقفا على قارعة الشارع بانتظار المركبات .. أقبلت بعضها .. رفع عكّازه فتوقفت المركبة.. صعدا إليها ، وأقلَّتهما إلى المدينة التي تبعد مسافة(28) كيلومترا.. مرورا بشارع الإرسال الرئيس.. وكان طَوال الطريق يَحثُّ حفيده على النظر من نافذة المركبة إلى لوحات الدعاية المرصّعة على أبواب المحلات التجارية المختلفة..ويسأله:

- يا حفيدي ما هذه اللغة المكتوبة بالأحرف العربية ولكن أنا لا أفهم معناها، يبدو لغتنا صارت مقلوبة أو مُحرَّفة ؟
- هذه يا جدي كلمات إنجليزية مكتوبة بأحرفنا العربية!!
- وكيف ذلك ونحن عرب أقحاح، أليست هذه مهانة لنا وللغتنا؟ كمان أنظر يا حفيدي إلى تلك اللوحات الجميلة ولكنها خالية من أحرف لغتنا العربية..ماذا مكتوب عليها؟
- يا جدي هذه لغة إنجليزية معرّبة..
- كيف يعني؟
-يعني المكتوب لغة عربية بأحرف إنجليزية ؟
- فهمت عليك .. لكن أنظر أيضا إلى هذه اللوحة مكتوب على نصفها باللغة العربية والنصف الآخر بلغة أجنبية.. ؟؟
- هذه يا جدي لغة عربية وتكملتها لغة إنجليزية !!
- والله هذه مسخرة وصرنا في آخر زمن.. يعني أنا أستطيع قراءة النصف، أما الباقي فلا أستطيع قراءته ولا معرفته !!
- نعم صحيح.. من لا يعرف اللغة الإنجليزية لا يستطيع فهم معنى اللوحة..
- طيب يا جدي وتلك اللوحة أحرفها لا تتشابه مع ما رأيناه قبل قليل، يا ترى ماذا ستكون الله يُجيرنَا؟
- يا جدي.. والله ما بعرف ..لا هي إنجليزية ولا عربية الأحرف..عجيب !! خلِّينِي أسال من يعرفها؟
تَوجَّه الحفيد بسؤاله إلى أحد الرُّكاب الشّباب بجواره ..
- يا أخي.. لو سمحت ما هي اللغة المكتوبة على تلك اللوحة؟

- هذه يا أخي لغة اسبانية، والتي بجوارها لغة فرنسية وووو... الخ !!! ليس هذا فحسب بل الأسوأ من ذلك اليوم يطلبون ممن يريد أن يتوظَّف ضرورة معرفته للغات، وكمان لا يترقّى الموظف في وظيفته الإدارية إلا باللغات حتى لو كانت خبراته ومهاراته الأخرى عالية، وكذلك يوجد الكثير من المواد الدراسية في الجامعات باللغة الإنجليزية ولا يتم تعرّيبها .. فتصور كيف سيكون مصير الخريجين الذين يدرسون بغير لغة الأم؟؟ اللغة الأجنبية جيده إلى جوار لغتنا العربية .. ولكن لا يجب أن تكون بديلة عنها!!

بدأ أبو فهمان يضرب كفا بكف، ويلطم على وجهه الذي جعّده الزَّمان وهو يردد: الله الله.. يا سواد وجهك يا أبو فهمان.. وكيف لي أن أعرف قراءة الإنجليزي وهذه اللغات حتى أفهم ما تعنيه وأنا في وطني الحبيب؟؟.. واحسرتاه عليك يا لغتنا الأبيّة.. أين هي الأسماء العربية التي كانت تُزيِّن الأبواب؟ أين هي "مقهى النِّجمة" التي كانت تجمعنا ونحتسي فيها أقداح الشاي المُنعنع، أنا وأبو فضل، وأبو عيسى وأبو محمد وأبو المراجل، والقائمة طويلة...الخ ونتداول شؤون حياتنا الزراعية والتجارية والسياسية.. لا حول ولا قوّة إلا بالله.. كنت آتي إليها وأُجالس كبار تُجّار الزيت، والعنب، واللوز، والقطين، والحبوب في مواسمنا الجميلة.. نبيع ونشتري ونتواصل فيما بيننا.. لقد كانت بمثابة وسيلة اتصال وتَجمُّع أيضا للسياسيين والمناضلين من لواء رام الله.. نتعرف على أحوال المواطنين ونسمع عن بطولات المناضلين وأخبار الوطن ونتكافل ونتعاضد فيما بيننا.. لقد كانت عنواننا مثل الحِكمة ضالَّة المؤمن..
- لماذا تولول يا جدي مثل الحزين كالفاقد لشيء ثمين؟

يا جدي والله شيء يحرق نياط القلب.. كان اسم المقهى له معنى عميق من صُلب تراثنا وثقافتنا وقرآننا.. ألم تسمع بالنّجم الثاقب يا جدي؟ و كنّا نهتدي بالنجوم أثناء سفرنا الليلي قبل تطور الحضارة.. الله يرحم أيام زمان ما أجملها وأروعها !! كانت المحلات تحمل أسماء عربية تُشفي الغليل والروح وتُسِرّ الناظر ومرسومة بِريَش أمهر الخطّاطين.. فترى الخط الرقعي، والخط الفارسي، والخط الكوفي، والخط النّسخي، وخط الثُلث وغيرها تزيِّن الشوارع والمحلات، ونابضة بالرّوعة وجمال اللغة العربية والفن العربي الأصيل والجميع يقرأها بكل سرور وهم يشعرون بالمَهابة .. الله يرحم أرواح من كانوا يغارون على اللغة كغيرتهم على شرفهم وعِرضهم.. أين رحلتم يا من ملأتم دنيانا بالعظمة والقوة والشرف؟ أين اختفت تلك الأسماء، أم أنها صارت عار علينا في هذا الحاضر الذي يأكل فيه القوي الضعيف؟..

أقول لك يا جدي: قسما عظما ما بقعد ولا لحظة واحدة في المدينتين .. لقد انقبضت نفسي وأصابني الغمّ والهّم مما رأيت بسبب الإهمال ومحاربة اللغة وطردها من الأماكن التي كانت تتربع على عروشها مثل الأميرة.. هذا هو عصر الدَّمار لثقافتنا ولم نحرك ساكنا..
وا أسفاه على غدر الزمان وعلى أمة تُحارب لغتها وتستبدلها بغيرها.. إنه يا جدي زمن التَّجهيل..

أرأيت يا جدي الآن لماذا أحضرتك معي إلى المدينة؟؟ كي ترى بأم عينيك المصيبة التي حلّت باللغة العربية وتزداد استفحالا..أينما أدرت وجهك وعينيك ترى كيف تُحاربُ اللغاتُ الأخرى لغتَنا الأم، وتحل محلها وتغيّبها من حاضرنا.. إنه إحلال واحتلال من نوع آخر!!..
- آه يا جدي... لقد فهمت عليك الآن ماذا كنت تقصد.. نعم، إنها معركة محو ثقافتنا.. لكن أنا يا جدي حصلت على تقدير ممتاز في اللغة العربية في شهادتي ألم ترها؟؟ هي بحوزتي.. ها هي أنظر..

- التقط أبو فهمان شهادة حفيدة المدرسية بين يديه، وانهمرت دموعه من مقلتيه، وسالت على وجنتيه.. هذا الموقف أثار حفيظة حفيده .. أخرج منديله الناعم من جيبه، وبدأ يكفكف دموعه الساخنة ويتأمل ما تخفيه، ثم حضن جده بِكِلتا يديه عندما شعر بمدى حرص جده الشديد على حماية اللغة العربية من الفناء.. وعادا معا إلى القرية وقد انتابت الحفيد موجة غضب عارمة، وإصرار على التحدي من أجل الحفاظ على لغتنا الحنونة من الضياع والذّوبان..