|
التفوق الأكاديمي وفشل القيم ولأخلاق
نشر بتاريخ: 13/07/2016 ( آخر تحديث: 13/07/2016 الساعة: 10:16 )
الكاتب: نبيل دويكات
عمّت حالة الفرح والبهجة بالأمس كل الأراضي الفلسطينية احتفالاً بنتائج الدراسة الثانوية العامة، وكالعادة كل عام في مثل هذه المناسبة فقد تعددت مظاهر التعبير عن الفرح والسرور بنجاح وتفوّق الطلبة، فتجول الطلبة الناجحين وأصدقائهم وذويهم في قوافل من السيارات التي تُطلق ابواقها مختلطة بأصوات الموسيقى والصرخات، فيما شهدت الشوارع والساحات العامة والخاصة والبيوت حلقات من الدبكة والرقص والاغاني، وانطلقت أصوات المفرقعات والأسلحة النارية في سماء كل انحاء الوطن، ومع حلول ساعات الليل ارتفعت وتيرة مظاهر الاحتفال المختلفة، وغلب عليها صوت ووهج المفرقعات والأسلحة النارية. أما ما ميّز أجواء الاحتفالات هذا العام فهو السياق الذي جاءت فيه.
شهدت الأسابيع القليلة التي سبقت إعلان نتائج الدراسة الثانوية حالة من التوتر التي أصبح متعارف عليها داخلياً بحالة أشبه "بالانفلات الأمني"، وتجلت أبرز مظاهرها في زيادة استخدام المفرقعات والأسلحة النارية في المناسبات الاجتماعية المختلفة، زيادة وتيرة الاعتداءات والشجارات التي ذهب ضحيتها عدة مواطنين، فضلاً عن زيادة في أعداد ونوعية المتاجرة بالمخدرات وتهريب وترويج السلع والمواد الفاسدة في الأسواق، على الأقل التي تم الكشف عنها، وكذلك ارتفاع وتيرة الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، والتهرب والهروب من القانون، بل وصل الأمر الى حد الاعتداء على أفراد ومراكز ومقرات قوى الأمن نفسها. وبدا الأمر وكأننا نقف على فوهة بركان قابل للانفجار في أية لحظة. تبع ذلك تدخل من أعلى المستويات السياسية والأمنية، والإعلان عن جملة من القرارات والإجراءات التي تهدف الى إعادة ضبط الوضع متمثلة بشكل خاص في "حملة أمنية" في معظم محافظات الوطن تركز نشاطاتها في ضبط ومصادرة المفرقعات والأسلحة النارية وملاحقة الفارين والمطلوبين... وغيرها من الأنشطة الأمنية. وشهد الأسبوع الأخير جملة من الإعلانات والتصريحات من جهات رسمية سياسية وأمنية تمهد الأرضية لذلك، وتهدد بالضرب بيد من حديد على كل مظاهر وتجليات "الانفلات الأمني". تتبع مسار الأحداث والتطورات الداخلية في مجتمعنا منذ العام 2003 على الأقل وحتى الآن يشير الى انها ليست المرة الأولى التي نعيشها في ظل مثل هذه الأجواء، وهي ليست المرة الأولى التي تعم فيها الشكوى من مظاهر وتجليات "الانفلات الأمني"، وهي أيضا ليست المرة الأولى التي يتم فيها الإعلان عن أو تنفيذ "حملات أمنية" في أكثر من محافظة ومنطقة. وفي كل مرة بقي السؤال نفسه قائماً: هل تمكًنا عبر الحملات الأمنية من إحراز نتائج ذات معنى ومغزى؟! الإجابة البسيطة على السؤال جاءت فورية بعد الإعلان عن نتائج الدراسة الثانوية، لم تتمكن كل الإعلانات والتصريحات، وربما أحيانا التحذيرات عشية إعلان النتائج، ولم تتمكن الأجهزة الأمنية التي انتشرت في كل محافظات الوطن من وقف، أو على الأقل الحد من مظاهر الاحتفالات، أو بالأصبح تلك الصاخبة والمزعجة منها، والتي استمر بعضها حتى ساعات الفجر. وربما وصل العديد من المواطنين الى نتيجة عبّر عنها بشكل مبطن أحياناً وواضح في أحيان أخرى بعبارة بسيطة تتحدث عن الفشل في منع أو الحد من الاحتفالات الصاخبة والمزعجة بالقول: ان النتيجة كانت الرسوب. في اعتقادي ان الموضوع أعمق من ذلك، وان حشر الموضوع برمته في زاوية "الأمن" هو الخطأ بعينه. غني عن القول إن تجارب التاريخ قاطبة وفي كل أنحاء العالم تشير ببساطة الى أن الحلول والمعالجات الأمنية للقضايا الاجتماعية والسياسية لم يقد مرة واحدة الى النجاح، بل كان فاشلاً دائماً. وفي واقعنا الحالي فإن التاريخ يعيد نفسه، فالمشكلات القائمة ليست فقط في إطلاق العيارات النارية في الهواء، أو في هروب أحدهم من القانون، أو في تاجر يسوق السلع الفاسدة، أو في اعتداء على الآخرين وممتلكاتهم... أو غيرها من السلوكيات بل إن هذا السلوك إنما هو تعبير عن حالة وثقافة تعكس القيم والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع، وتعبر عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بشكل مكثف. باختصار شديد في ظل حالة تتفشى فيها البطالة، الفساد، المحسوبية، انعدام العدالة والمساواة، ترهل أجهزة القانون والنظام وعدم قدرتها على القيام بواجباتها، والاهم تداخل الأجهزة والسلطات ومهامها وصلاحياتها، وانعدام المتابعة والرقابة على عملها عموماً،كل ذلك من شأنه أن يقود الى فقدان الثقة بقدرة السلطة القائمة بأجهزتها المختلفة، على إدارة أمور المجتمع بعدالة ومساواة، وهو ما يقود الى بحث الأفراد والجماعات عن مصادر أخرى لتعزيز قوتها ونفوذها لتحقيق والحفاظ على مصالحها.هنا تسقط القيم تباعاً، وتتعزز يوماً بعد يوم كل العادات والتقاليد والسلوكيات التي يحقق فيها الأفراد والمجموعات مصالحهم ويحافظون عليها، بغض النظر إن كانت متوافقة أو متعارضة مع مصالح ورغبات الآخرين. كم مرة رأينا أحدهم يغلق شارعاً أو ساحة عامة لإقامة احتفال خاص؟! وكم مرة أغلق آخر شارعاً بشاحنات الإسمنت لأنه يريد سقف بنايته؟! كم مرة غسل أحدهم سيارته وتسبب في اتساخ عشرات السيارات الأخرى بسبب المياه التي تركها تنساب في الشارع العام؟! كم مرة اغلق آخر رصيف المشاة ليركن سيارته؟! كم مرة احتفل أحدهم بصخب وحتى ساعات الفجر دون مراعاة لمن حوله؟! كم مرة اغلق أحدهم شارعاً عاماً بسيارته لأنه ذاهب الى مكان العبادة؟! كم وكم وكم؟! أسئلة كثيرة جداً يمكن لنا أن نضعها حول سلوكيات وتفاصيل كثير نراها ونعايشها في كل لحظة، وكل مكان وتدور جميعها حول نفس القيم التي تتراجع، بل تنهار. خلاصة القول إن الحلول والمعالجات الأمنية وبناء الخطط والبرامج على هذا الأساس لم يعد غير كافٍ فقط، بل ربما يقود الى مزيد من التراجع والإحباط وفقدان الثقة في معظم الأحوال، ليس بين المواطنين فقط، وانما بين المواطنين وأجهزة الأمن، وحتى في صفوف أجهزة الأمن ذاتها وقدرتها على القيام بدورها. ولذلك فإن البحث عن الحلول يجب ان يشمل مستويات عديدة تتضمن نهج وتوجه سياسي شامل في معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وإيجاد حلول لتداخل السلطات وافساح المجال امام كل من السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية لممارسة الدور المنوط بكل منها، وتعزيز سيادة القانون واستقلاله، والمساواة امامه للمواطنين كافة، وهو ما يعزز فرص العدالة الاجتماعية ويفتح آفاق الأملالتي تراجعت، أو تلاشت، أمام الكثير من الفئات والشرائح الاجتماعية، مع تفشي البطالة والفساد وسوء الإدارة وترهل الأجهزة والمؤسسات العامة. اما المستوى الآخر فهو تضامن كافة المؤسسات والهيئات المجتمعية وعملها المشترك الطويل الأمد لتعزيز القيم والعادات والتقاليد الإيجابية ومحاربة السلبية والهدامة منها. وبدون ذلك فإننا سنواصل التراجع على كل المستويات، وفي شتى المجالات. ولن يكون للأموال والجهود التي نستثمرها في التعليم أي أثر في تنمية وتطوير مجتمعنا وتحسين نوعية الحياة فيه. |