وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

المؤسسة التي تعلم الفساد

نشر بتاريخ: 13/08/2016 ( آخر تحديث: 13/08/2016 الساعة: 16:44 )
المؤسسة التي تعلم الفساد
الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
هذه مؤسسة لا تعرف باسمها، ولكن تعرف بخصائصها ومزاياها وكيميائيتها، التي لا يمكن أن تخفى أو تغيب عن العين، فهي مؤسسة تدفعك إلى الفساد والإفساد، شئت أم أبيت، فهذا من شروط العضوية أو ضريبة الالتحاق أو الإلحاق، فما أن تدخل حتى تجبرك الشروط على الانخراط والتورط مهما ادعيت من طهارة ذيل أو عفاف قلب، إذ أن هذه المؤسسة تخضع لقوانين غير مكتوبة ولكنها صارمة وحاسمة ولا يمكن تجاوزها، وفي حالة فعلت ستجد نفسك شريد، أو طريدا، أو منبوذا أو مهانا، أو ملوثا، أو متهما، أو كل ذلك.
ومن القوانين غير المكتوبة، التي يجب أن تخضع لها، حسب ما ذكره العلامة ابن نقال الكلام في موسوعته الكبيرة "الكشكول في إرضاء المسؤول" الآتي:
أولا: دبَر حالك أو زبَط حالك، وزبَط من الكلام الدارج، أما في اللغة المعجمية، فهي تعني ضبط الحال، وقد احتار فقهاء الفساد في المعنى الحقيقي لضبط الحال أو تدبيره، حيث قال العلامة أبو الثرثار من الحارة الفوقا، إن ضبط الحال معرفة المقام وحسن المقال، فيما قال الفهامة ذو الفم الواسع من الحارة التحتا، أن ضبط الحال يعني اقتحام المحظورات وكسر الممنوعات، ومهما قيل في ذلك فان تدبير الحال أو ضبطه غير محدد حتى الآن، حيث يبدأ هذا من تكسير الجفون إلى تكسير الأضلاع، وتدبير الحال هذا لا يعترف بالقوانين، أو التعليمات، أو المربعات، ولا المقامات، ولا القامات أيضا، بل يدفعنا هذا القانون إلى تعلم القفز، قفز الأرانب، وقفز الجنادب، وقفز الضفادع، ولكن للأسف، لا يعلمنا قفز الأحصنة، فتدبير الحال كما هو معلوم، هو من شيم العبيد وليس من شيم السادة.
ثانيا:القانون الثاني غير المكتوب في هذه المؤسسة، أن الترقيات، ,أو المقامات، أو المناصب، لا تتم حسب العمل والجهد والإبداع والمثابرة، فالعامل والهامل في هذه المؤسسة متساويان، وكذلك القاري والهاري، والفارغ والفارع، والرائح مثل الغادي، والمتكئ على زره مثل المتكئ على زنده، فالترقية أو المنصب لا علاقة له أو لها بهذه المعايير، بل هي معايير غامضة، تبدو وكأنها قادمة من وراء الحجب، فهي قرارات مقدسة، مصمتة، صامتة،عجيبة، ومدهشة، والمشكلة هنا أن جميع من في المؤسسة سيدخلون حالة ارتباك مردها إلى انعدام الجواب للسؤال الأبدي: لماذا؟!
ثالثا: القانون الثالث غير المكتوب في مثل هذه المؤسسة أن لا احد يستطيع تبني قرار أو تحمل نتائجه، إذ أن الجميع يرمي مسؤولية القرار على الجميع، لهذا فان القرار الصادر يكون يتيما، بلا أب، بلا هوية، بلا طعم، ولهذا السبب، فان معظم قرارات هذه المؤسسة لا يسري ولا ينجح ولا يترك أثرا، ولأنها كذلك، فهناك قرارات كثيرة متراكمة، يأكل بعضها بعضا، ويناقض بعضها بعضا.
رابعا: القانون الرابع غير المكتوب في هذه المؤسسة، أن الكل ناجح فيها، ولكنها فاشلة ومستمرة، وهذا من أعجب العجب، إذ رغم فشل المؤسسة وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها، إلا أن كل اجتماع يعقده المسئولون فيها، يضم صغارهم وكبارهم، يقررون فيه أن كل شيء يسير بشكل جيد، وان كل مسئول يقوم بواجبه ضمن حدود وظيفته، العجيب في هذا أن الأفراد ناجحون ولكن المؤسسة فاشلة، فكيف يكون ذلك ؟!
وقد رد العلامة ابن لسان أمه على هذا التساؤل بالقول، إن هذا يعود للجبن المستحكم في الضعفاء عندما يفقدون الرؤية ذات المدى الطويل، ويفقدون القدرة على رؤية الصورة الكبيرة من اجل الصورة الصغيرةن فيما قال العلامة ابن المتسلقة، أن ذلك يعود إلى أخلاق العبيد التي هي غير أخلاق السادة، فالعبيد هم الذين يلومون كل شيء إلا أنفسهم، وهذا لا علاقة له بالكبر أو الغرور أو الجهل، فالعبد يخلي مسؤوليته من كل شيء، ولهذا نادرا ما تجد عبدا يتميز بالخلق الرفيع، الأخلاق هي للسادة.
خامسا: القانون الخامس غير المكتوب في هذه المؤسسة، ينص على أن حاشية المدير هي التي تقرر بالضبط نوع ومضمون الورقة التي يجب إن يراها المدير، ونوع وحجم ومضمون المعلومات التي يجب أن يحصل عليها أو يعرفها، تقوم الحاشية أو البطانة (وهم عادة من الأذكياء الاجتماعيين وأصحاب خبرة متمرسة في التوزيع والأنعام والمنع والبيع) بخلق ما يشبه السور الواقي المضروب على المدير، أو بصنع حجاب يبعد المدير عن موظفيه، وحتى عن أهداف المؤسسة، لهذا عادة ما نرى المدير- من أمثال هؤلاء- يتغير بعد استلام وظيفته، فلا يعود هو الشخص الذي نعرفه أو نتوقعه، والمعضلة في مثل هذا الوضع، أن على كل موظف، صغر أم كبر ، أن يرتب أوضاعه مع احد أفراد الحاشية، في عودة مكررة ومملة لما يعرف بالأقطاب أو المراكز أو عمليات الشد والجذب، مع ما يرافق ذلك من نمائم وأكاذيب وإشاعات ومؤامرات صغيرة، وكتب صادرة وكتب واردة.
سادسا: القانون السادس في هذه المؤسسة، انك لا تستطيع أن تعرف بالضبط من هو الأكثر أهمية فيها، إذ أن القوة أو النفوذ غير مرتبط بموقعك في المؤسسة أو راتبك أو رتبتك أو حتى عملك، فالنفوذ والقوة تتوزع بطريقة لا تفهمها ولا يمكنك أن تفهمها، فكيف بموظف صغير يتحكم بمن هم أعلى منه رتبة ومرتبة، وكيف لسيدة مثلا لا تحمل أية شهادة علمية أن تتفوق على من يحملون شهادات أعلى منها، هذا وقدا أشار إلى ذلك العلامة الانبطاحي في كتابه العجيب وغير المسبوق "حرب الصواري في حكم القيان والجواري"عندما ذكر أن الجارية ثمل جلست للقضاء في بغداد على زمن الخليفة المقتدر بالله وأمه شغب، وقد استوقف هذا الحادث الكاتب احمد رفيق عوض فوضع روايته المعروفة بعنوان "القرمطي"سنة 2002، فكيف بالله عليكم أن يتكرر مثل هذا الحادث الذي وقع قبل ألف سنة مما تعدون ومما نعد,في مؤسسة مثل تلك، فان نفوذك وتأثيرك وقوتك، لا علاقة لها بما تحمل، أو تحلم، أو تعلم، أو تعمل، النفوذ –وعلى طريقة العبيد- له علاقة بتزبيط الحال أو تدبيره، ولهذا قال العلامة الانبطاحي في كتابه غير المسبوق والمشار إليه آنفا: وإذا كان مسئولك من البويهيين فاظهر تعظيم آل البيت، وإذا كان مسؤولك من السلاجقة، فاظهر تعظيم الخلفاء الأربعة، والأئمة الأربعة ولا تبالي.