|
من جبهة النصرة الى جبهة فتح الشام... تحول في الجوهر أم إعادة تسويق؟
نشر بتاريخ: 23/08/2016 ( آخر تحديث: 23/08/2016 الساعة: 14:45 )
الكاتب: انور رجب
بعد أشهر قليلة من بدء "ثورات الربيع العربي"، وتحديدا في مايو من العام2011، تمكنت مجموعة من النخبة في الجيش الأمريكي من قتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في مدينة أبتابود الباكستانية، وقد سيطرت على كمية هائلة من الوثائق والرسائل التي تحتوى على معلومات تخص تنظيم القاعدة بكل مكوناته. وقد كشفت تلك الوثائق عن مضمون الإستراتيجية الجديدة التي تداولها بن لادن مع آخرين من قيادة القاعدة، والتي تضمنت ضرورة إجراء مراجعة شاملة لأساليب وتكتيكات القاعدة، ويقترح فيها العديد من الأفكار لإعادة إنتاج وتسويق القاعدة من خلال إنشاء أفرع جديدة لها تحمل فكر القاعدة دون أن تحمل اسمها وذلك في محاولة للتكيف مع نهج تلك الثورات التي بدأت ونجحت سلميا في تونس ومصر. ولكن محاولة التكيف هذه لم تمس البنية الصلبة في أيدلوجية التنظيم.
من الناحية العملية ظهر التحول في إستراتيجية القاعدة من خلال إحداث فروع لها في كل بؤر التوتر التي شملتها الثورات، وبتكتيكات وأساليب وطرق عمل جديدة تقوم على كسب تعاطف وتأييد الجماهير وتوفير مظلة وحاضنة شعبية من خلال تشكيل أجنحة دعوية وخيرية تهتم بالعمل الاجتماعي والخيري من جهة، والتعاون مع مجموعات وجماعات محلية من جهة أخري، سواء كانت هذه المجموعات عسكرية كما في سوريا، أو قبلية كما في اليمن وليبيا وسيناء في مصر، واستجابة لهذه الإستراتيجية بدأت تخرج الى العلن تنظيمات تحمل أفكار القاعدة، ولكن بأسماء مختلفة، فظهرت جماعة أنصار الشريعة في كل من تونس وليبيا واليمن، وكانت جبهة النصرة لأهل الشام بقيادة أبو محمد الجولاني التجربة الأبرز في هذا الشأن والأكثر صلابة وقوة وحضوراً، وربما كان لخصوصية الوضع في سوريا دوراً في ذلك. بغض النظر عن النشأة الملتبسة لجبهة النصرة من ناحية تبعيتها لتنظيم القاعدة أم لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" في حينه، إلا أن مسألة إخفاء ارتباطها بأي من التنظيمين كان متفقاً ومتفاهماً عليها بين الأطراف الثلاثة. بيد أن إعلان أبو بكر البغدادي عن ضم جبهة النصرة ودمجها بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وتشكيل الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ورفض جبهة النصرة الامتثال لهذا الدمج، وما تبعه من خلاف وانقسام علني بين تنظيم القاعدة من جهة وتنظيم داعش من جهة أخرى فرض على جبهة النصرة وأميرها الجولاني والظواهري زعيم القاعدة الإعلان والاعتراف بان النصرة هي بمثابة فرع لتنظيم القاعدة في سوريا. لم يكن من المستغرب أن تتمرد النصرة على تنظيم الدولة وتعلن ولائها لتنظيم القاعدة، إذ ومنذ الإعلان عن تأسيسها في يناير 2012، اعتمدت جبهة النصرة إستراتيجية مخالفة ومغايرة لنهج تنظيم الدولة، ويمكن القول أن تجربتها كانت بمنزلة التطبيق العملي للمراجعات التي أقرها تنظيم القاعدة. وتمثلت هذا التطبيقات بداية باختيارها للإسم وعدم الإعلان عن أي ارتباط لها بتنظيم القاعدة، ومنها أيضاً أن تنظيم النصرة حافظ على علاقة جيدة مع المجتمعات المحلية، وحرص على تجنب استفزاز المكونات الاجتماعية التي تستقر فيها، وقدم نشاطا خدميا وإغاثياً واسعاً، كما تعاونت النصرة مع غالبية كتائب الثورة السورية دون أن تطلب الولاء أو الانضمام لها، وهو ما أتاح لها التغلغل والانتشار وجنبها الصدام العسكري مع تلك الكتائب إلا في حالات استثنائية، وفي أكثر من مناسبة أكدت النصرة على محلية فعلها ونشاطها وانه لا يتعدى الحدود السورية، وهكذا أصبحت جبهة النصرة من ابرز وأهم الفصائل التي تحارب النظام السوري وتحظى بحضور وقبول محلي، وربما هذا ما يفسر اعتراض أجنحة من المعارضة السورية لإدراج الولايات المتحدة في ديسمبر 2012 لجبهة النصرة على لائحة التنظيمات الإرهابية. وربما هذا ما يفسر أيضا استمرار بعض القوى الإقليمية بالمراهنة على جبهة النصرة بعد أن فشلت مراهناتها ومراهنات أطراف متعددة متورطة بالأزمة السورية على الفصائل المعارضة المسلحة التي توصف بالمعتدلة في قدرتها على مواجهة النظام السوري وإسقاطه ليس رأفة بالشعب السوري وإنما تلبية لأجنداتها السياسية. وقد حافظت هذه القوى ويشار هنا الى قطر وتركيا تحديدا على استمرار دعمها لجبهة النصرة وان لم تكن قادرة على الجهر بذلك خاصة بعد أن وُضعت النصرة على قائمة المنظمات الإرهابية، وأصبحت هدفاً كما داعش لضربات قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة من جهة، وهجمات الطائرات الروسية من جهة أخرى والتي لم تستثني المجموعات العسكرية الأخرى بما فيها التي توصف بالمعتدلة معللة ذلك بتداخل مواقع تلك المجموعات وتقاربها الجغرافي مع النصرة. و من هنا عملت تلك القوى على استثمار اتصالاتها بالنصرة لإقناعها بفك الارتباط مع تنظيم القاعدة تمهيداً لشرعنة دورها القادم في العملية السياسية وفرض خارطة جديدة للجماعات المسلحة المعارضة وتحديداً الإسلامية منها ذات التوجه الجهادي المحلي تكون النصرة مركزها ومحورها بعد إزالة السبب الذي كان يحول دون ذلك وهو علاقة النصرة بالقاعدة بعد أن تُفتح للنصرة أبواب الدعم العسكري والسياسي على مصراعيها، (تعتبر النصرة أكبر مجموعة إسلامية جهادية في سوريا بعد تنظيم الدولة الإسلامية)، وبالتالي تضمن وجود قوة حقيقية يكون بمقدورها إعادة التوازن في الميدان بعد أن أصبح يميل لصالح النظام، وفي نفس الوقت سحب الذرائع من الروس في استهداف المجموعات المعارضة المسلحة الأخرى (وهذا ما ورد معناه في كلمة الجولاني). معنى ذلك أن إستراتيجية استثمار وتوظيف الجماعات التكفيرية في خدمة أجندات سياسية وتصفية الحسابات مع خصوم إقليميين ودوليين ما زالت قائمة، وهي سياسة اثبت فشلها وكانت وبالاً ونتائجها كارثية ليس على من استخدمها وحسب وإنما على الأمن والاستقرار العالمي، منذ أن اعتمدها الرئيس الراحل أنور السادات، مروراً بالحرب في أفغانستان ثم العراق والآن سوريا. ولكن السؤال هنا من الذي يوظف الآخر؟. بقراء متأنية لخطاب الجولاني وقبله خطاب احمد حسن أبو الخير نائب الظواهري وما صدر عن الظواهري نفسه، يتضح أن فك الارتباط جاء بالتفاهم والتنسيق مع قيادة القاعدة وبمباركتها، وهذا ما يمكن فهمه في سياق تكريس إستراتيجية القاعدة الجديدة بعد المراجعات التي أقرتها وكانت النصرة ابرز تجلياتها، كما أن تغيير اسمها لتصبح "جبهة فتح الشام" لا يأتي بجديد إذ أن حملها اسم النصرة سابقاً جاء في سياق نفس المراجعات، ولولا الخلاف مع داعش لما تم الإفشاء بعلاقتها مع تنظيم القاعدة. بالإضافة الى أن الخطابين والبيان الأول الذي صدر باسم جبهة فتح الشام لم يتضمنوا أي إشارة لتحول جوهري في مضمون خطاب ورؤية التنظيم سواء من ناحية تحكيم الشريعة وعالميتها، أو من ناحية مفهوم الجهاد محليا وعالميا، أو إقامة دولة الخلافة، أو في تطبيق مفهوم الولاء والبراء. حتى من حيث الشكل الذي ظهر به الجولاني ومن معه يلاحظ تكريس نموذج أسامة بن لادن من حيث الملبس "العمامة والبزة العسكرية"، والاستشهاد بأقواله، وبالإضافة الى ظهور احمد سلامة مبروك "أبو الفرج المصري" على يمين الجولاني، وهو الذي يحتفظ بتاريخ حافل ومشترك مع الظواهري منذ عملهما معاً ضمن جماعة الجهاد المصرية ثم في أفغانستان والسودان والشيشان، وصولا الى ابتعاثه من قبل تنظيم القاعدة لدعم جبهة النصرة، وهذه مسائل وان بدت رمزية لكن لها دلالاتها ومؤشراتها التي تتفق مع ما جاء في رسالة أبو الخير "إن الروابط بين الجبهة وتنظيم القاعدة أهم وأعز عندنا من أي رابطة تنظيمية". كما يلاحظ عبارات الغزل والثناء والمديح المتبادلة والتي تذكرنا بمشهد طالما كان حاضراً في الأفلام السينمائية المصرية القديمة، وهو مشهد العشيقين اللذين فرضت عليهما ظروف العداء العائلية أن يفترقا، وفي لقاء الوداع الأخير افترقا وهما يمنيا نفسيهما بالعودة واللقاء من جديد حين تتغير الظروف. إذاً حسابات النصرة في إعلان فك ارتباطها بتنظيم القاعدة لم تأتي في سياق تحول جوهري يمس بنيتها الفكرية الصلبة بقدر ما جاء في سياق إستراتيجية إعادة تسويق نفسها واستثمار تباين وتناقض الأجندات الإقليمية والدولية في التعامل مع الأزمة السورية لصالح ترسيخ حضورها أكثر، وضمان مستقبلها من خلال دور فاعل على المدى الطويل، ناهيك عن ضمان استئناف الدعم العسكري والمالي والسياسي بشكل اكبر لتكون قادرة على تحقيق أهدافها وفق رؤيتها السياسية وبنيتها الفكرية الصلبة. هذه الحسابات والتكتيكات سواء من قبل جبهة النصرة أو تلك القوى الإقليمية ليس بالضرورة أن تأتي رياحها بما تشتهي، فتعقيدات الأزمة السورية وتشعباتها، وتغير وتبدل خارطة التحالفات والتجاذبات بين القوى الإقليمية والدولية وهي خارطة تعاني من عدم الثبات وسريعة التغير والتبدل، بالإضافة الى ما تفرضه موازين القوى في الميدان، من شأنها أن تربك وتعرقل تنفيذ مخططات وبرامج الجميع، وتعيد رسم السياسات والاستراتيجيات من جديد، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة الى عودة العلاقات التركية الروسية، والهرولة الاردوغانية باتجاه روسيا التي فرضتها مجريات الأوضاع الداخلية في تركيا، وما شاب علاقاتها الخارجية من توتر وتشنج مع أوروبا والولايات المتحدة بما يفرض على تركيا إعادة النظر في إستراتيجيتها اتجاه الأزمة السورية، وربما هذا ما يمكن قراءته في التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأتراك حول سوريا. وهذا لا يبدو غريبا في السياسة التركية التي عودتنا على التحولات الدراماتيكية والمفاجئة في سياستها الخارجية. إذاَ وبالعودة لموضوع جبهة النصرة فان محاولاتها التكيف مع مقتضيات الحالة السورية، وفرض نفسها ضمن خارطة القوى الإسلامية السورية المعتدلة ضمن شروط ومواصفات المجتمع الدولي، وسعيها لعزل نفسها عن قائمة الجماعات الإرهابية بغض النظر عن الاسم الذي تحمله أمر يبدو بعيد المنال، لان استحقاقاته اكبر بكثير مما تستطيع جبهة النصرة تحمله، كما سيكون من الصعب على أي قوى إقليمية مهما بلغت درجة نفوذها وقدراتها المالية أو العسكرية تسويق النصرة بوصفها جماعة تمارس الإرهاب الجيد فالإرهاب هو الإرهاب لا يصنف بكونه إرهاب سيئ وإرهاب جيد. |