وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

تأثير الخلافات التركية ـ العربية على العلاقات التركية ـ الخليجية

نشر بتاريخ: 04/09/2016 ( آخر تحديث: 04/09/2016 الساعة: 10:22 )
تأثير الخلافات التركية ـ العربية على العلاقات التركية ـ الخليجية
الكاتب: د. نزار نبيل أبو منشار الحرباوي
تتفاعل تأثيرات السياسة الدولية اليوم في العالم العربي والإسلامي بأكثر من مسار ، بعض هذه المسارات يأخذ الطابع العسكري الصرف ، وبعضها الآخر يأخذ طابع التوغل الاقتصادي والثقافي ، وما بين هذه السياسة وتلك ، تتشكل ملامح شرق أوسط جديد يختلف كليا عن السابق المعهود ، شرق أوسط يتمتع فيه الإنسان بنمط تفكير يتركز على ضرورة الأمن الشخصي كأولوية بارزة في أجندة حركته اليومية وتفكيره الروتيني في أبسط خبر وأحقر حادثة .
ما يجري على رقعة الشطرنج العربية اليوم ليس لعبة أمريكية روسية ، وليس نفوذا ايرانيا إسرائيليا متوسعا في الجغرافيا والنفوذ السياسي فحسب بل هي معركة حقيقية لتقرير المصير تفرض نفسها على المنطقة بكل قوة ، وتعصف بأشكال التفكير الروتيني، وطبائع التعاملات السياسية ، بل وفي مرتكزات الحركات والتيارات السياسية العاملة في الساحات مهما اختلفت مسمياتها ومرتكزاتها الفكرية .

إن ميلاد التحالف الإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية ، وبداية حصول التقارب التركي الخليجي ، وبداية اللعب على أوتار التوازنات الإقليمية بصورة علنية وصارخة ، ما هو إلا إحساس من هذه الدول جميعا بأن هناك ما يحاك ضدها ، وأن مشروع التقسيم وتقسيم المقسم قادم ليمزق أوصال العالم العربي ويضرب النماذج الريادية فيه ليعاد تشكيله بصورة جديدة ، لم تتفق الدول الكبرى عليها بعد، ولكنها بانتظار لحظة الحصول فيها على حصتها من الكعكة المشرقية .

هناك عدة أسئلة محورية تطرح اليوم في مجال علم السياسة على حقيقة وجوهر ودواعي الحراك السياسي التكتيكي الذي يتم بين دولة وأخرى ، وبين دول تتلاقى على مصالح تواضعت عليها فيما بينها ، فباتت أحلافا كل حلف منها يميل إلى قوة عظمى، ويحاول التأثير في قرارات ومسارات الطرف الآخر ، وأول هذه الأسئلة : هل فعلا هناك حراك يمكن له أن يغير لعبة الكبار ويقلم مخالب العجزة ? وهل فعلا يمكن لتحالف دولتين أو أكثر أن يشكل مجموعة ضغط دولية يمكن لها أن تؤثر في قرارات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ? وهل يمكن فعليا الاتكاء على الحلفاء في عالم المصالح غير المعلومة والاتفاقات غير المعلومة ونزول اللاعبين الكبار إلى الميدان بقواعدهم العسكرية وبوارجهم الحربية وترسانتهم الثقيلة ?

هنا علينا أن نمعن النظر في أصول المسائل لا في السياسات والتكتيكات ، علينا أن ننظر إلى حجم الفرص وحجم المهددات الاستراتيجية في التفكير والتخطيط الاستراتيجي ، فهل يمكن لنا أن نتحدث عن موقف عربي موحد تجاه النفوذ الإسرائيلي أو الإيراني المتنامي ? هل يمكن لنا الحديث عن موقف عربي موحد تجاه ما جرى في مصر ? أو في تشخيص العلاقة مع الإخوان المسلمين أو أحزاب وتيارات المعارضة السورية كمثال ? أو حتى في التعامل مع إيران تجاريا ?

برأيي الإجابة بالنفي لازمة هنا كمدخل لفهم وتحليل المشهد برمته، والإجابة بكلمة: لا ، تعني بداية التحليل العقلاني لتفكيك كثير من القضايا الملتبسة في سلوك الدول والحكومات والتيارات السياسية التي تعتمد كل دولة فيها على توجهها الذاتي وقراءتها التحليلية المنفردة للتعامل معها .
الأمر ذاته ينعكس على الباكستان وتركيا وماليزيا وبقية الدول الإسلامية غير العربية، ففي الوقت الذي يتبلور فيه تقارب خليجي تركي واضح ، لا سيما بين المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، لا زالت غالبية دول العالم العربي تقف موقف المتفرج على هذه العلاقة الواجبة ولم تفهم وجوبها وأهميتها الواقعية والاستراتيجية ، ولا زالت بعض الدول العربية تعول على علاقاتها مع روسيا وأمريكا وأوروبا حتى بعد كل الذي جرى ويجري.

كما أن هناك أمورا تعكر صفو مشهد التوافقات العربية التركية ،التي تعتبر مقدمة لتوافقات عربية إسلامية أكبر وأشمل، حيث مازالت هناك خلافات عالقة بيت أنقرة وبعض الدول العربية كالخلاف القائم بين تركيا و مصر، أو بين تركيا والعراق، وهي خلافات حقيقية ولها مبرراتها في وجهة نظر كل فريق ، برغم الجهود العربية للوساطة بين هذه الدول .
المشهد ذاته يتكرر في توجهات الدول في دعم الفصائل السورية المعارضة ، فالمحاصصة في الدعم وتوفير الغطاء وتعزيز الحضور صورة مستنسخة للتعامل مع ملفات أخرى كاختلاف وجهة النظر بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا حيال التعامل مع جماعة الاخوان المسلمين، ومنحها الحق في ممارسة العمل السياسي بحرية في البلاد العربية ، أو حتى في البلاد التي تمت فيها الثورات العربية التي اصطلح عليها بالربيع العربي، وهو خلاف ينسحب على نظرة دول مجلس التعاون الخليجي على التعامل مع الملف الفلسطيني واللبناني والعراقي .

برأيي أن نقطة الحسم في هذه القضايا الخلافية لا تبدأ من المستويات السياسية التي هي بعيدة عن القواعد الشعبية ، هذه القواعد التي لا تفرق بين بيئة وبيئة ، ولا يختلف فيها اثنان على وجوب رحيل الأسد ، وعلى تحقيق الاستقرار والتنمية ، وعلى مشروعات الوحدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين الدول الإسلامية قاطبة ، بل تبدأ من القيادات السياسية التي تستشعر حجم المخطط العالمي الجديد ، وحجم المؤامرة ، والتهديد الجوهري لبقاء الأنظمة الحاكمة وحالة الاستقرار وحالة المخاطر التي تترتب على التوسع الإيراني والإسرائيلي في المنطقة العربية بكاملها .
ولست أعني هنا أبدا تغيير مستويات صنع القرار ، بل الاستمرار في النهج الصائب الذي لجأنا إليه كعرب وأتراك من باب الإكراه بعد أن عجزنا عبر منظمات التعاون الإسلامي والجامعة العربية عن تحقيقه ، وجاء التقارب السياسي السعودي التركي ليعطي بارقة أمل فعلية بإمكانية التغيير ، حتى ولو كان التغيير الإيجابي تحت الضغط والشعور برهبة الموقف الخانق.

إن فهم القيادات السياسية الواعية لطبيعة وشكل وحجم وتوجهات المخطط الغربي للمنطقة العربية والإسلامية ، يوجب على الدول التي تختلف فيما بينها في ملفات فرعية أن تنضج مشروع التلاقي على القوائم المشتركة فيما بينها بكل سرعة ، وبشكل جدي يتجاوز الخلافات على الفروع ، فهل ما بين أنقرة وبغداد من خلافات يستحق أن يذكر في مواجهة تهديد ميلاد ثلاث دول في العراق تهدد أمن الخليج وتنسف العراق المعروف اليوم وتزعزع استقرار وأمن تركيا ?
وهل رضي الشارع الخليجي بواقع الحال في مصر بعد دعم نظام السيسي وترويجه عالميا ? أو هل يقبل باستمرار المشهد المنزلق نحو الحرب الأهلية تدريجيا لكون بعض الدول تدعم مرسى وبعضها يدعم السيسي ?

المسألة هنا تتصل بعمق القضية ومستويات التحليل ، ونقطة حل الخلافات تبدأ من تفكيك القضايا العالقة إلى ملفات فرعية جزئية صغيرة يمكن التعامل معها بمبدأ التفاوض والبحث عن حلول تجميعية توافقية تحقق للأطراف جميعا ما تريده وتتعامل مع بعضها بمبدأ: الجميع فائز في التفاوض العقلاني .
موقف تركيا بعد الانقلاب العسكري من حكم السيسي والعسكر واضح وصريح جدا ، ولكن تركيا أردوغان، ومصر السيسي مجبرتان على اللقاء في منتصف الطريق ، كرها لا طوعا ، برغم ما قد يحمله ذلك من انعكاسات على الواقع الداخلي في كلا البلدين ، وكذلك الحال بين تركيا والإمارات ، وبين تركيا والعراق ، وحتى بين دول مجلس التعاون الخليجي ، فهذا زمان يقول لنا بصراحة : إما أن تعملوا معا أو سيكون مصيركم الفناء .

إن تحقيق الوعي الفعلي على مستوى النخب المثقفة ، وإطلاق حملة إعلامية تركية عربية مشتركة ، بدءاً من حملة خليجية ضاغطة لترتيب الأوضاع وتصويب المسارات العامة ، وطرح الأفكار وإسقاطها على مستوى الفرد في العالم العربي وتركيا كفيل بتحقيق سقف أعلى من الإنجاز ، وصولا إلى تحقيق التوافق حول هذه الخلافات الفرعية ، حملة إعلامية ذات أهداف واضحة ، يمكن لها أن تقزم دور الإعلام المأجور الهدام الذي يتم في بعض الدول التي تلعب على حبال الفتنة .

يبقى أن أشير هنا إلى أن الخلافات القائمة ما بين تركيا والعالم العربي في كثير منها ، خلافات تتعلق بقضايا نفسية وتاريخية بل وشخصية تتصل بالأشخاص ذواتهم ، وهذا النوع من الخلافات لا يشكل أي مشكلة في عالم التفاوض العصري المدروس، فمن خلال قيادة تفاوضية ناضجة ،وإمكانات ضغط موجه ، وقدرات مادية فعلية ، وحملات إعلامية مدروسة ومباشرة ، يمكن لك أن تصل إلى حلول جدية فعلا في غالبية القضايا الخلافية القائمة ، بل وتحويل هذه الخلافات في التوجهات إلى تجارب ناجحة في بناء وتشبيك العلاقات بين الدول ، وما تجربة الاتحاد الأوروبي الذي نشأ بعد حروب أوروبية طاحنة إلا مثال حي على إمكانية جلوس الخصوم والفرقاء مع بعضهم البعض لتدارس الملفات بنظرة جديدة وحلول عملية بعيدة عن التعصب والعشوائية والتوجهات المسبقة التي قد تئد أي اتفاق منشود.