|
التضخم الاقتصادي المرتقب ما بين المسببات والتبعات والحلول الممكنة
نشر بتاريخ: 09/10/2016 ( آخر تحديث: 09/10/2016 الساعة: 14:35 )
الكاتب: عبدالرحيم الحسن
مع الإعلان عن اعتماد مسودة نهائية "للقرار بقانون بشأن الضمان الاجتماعي"، يجب الاستعداد لمواجهة تبعات السيولة التي سيتم ضخها في الاقتصاد الفلسطيني بعد صرف مكافأة نهاية الخدمة لحوالي 652,500 من العاملين في القطاع الخاص .
رغم الانتعاش النسبي المتوقع أن يشهده الاقتصاد الفلسطيني مع ضخ تلك السيولة، والتي قد تمتد لسنوات، إلا أنه من المتوقع أن يلي ذلك الانتعاش ارتفاعاً ملحوظاً في الأسعار بسبب ما سيترتب على طفرة السيولة تلك من ازدياد متصاعد في الطلب على الخدمات والسلع، خاصةً الاستهلاكية؛ الأمر الذي قد يدفع القطاع الخاص للتوسع وإقامة منشآت جديدة في مجالات شتى مثل توريد وتسويق وتوزيع مختلف أصناف السلع والخدمات؛ وذلك لمواكبة وتلبية الطلب الناتج عن ازدياد السيولة النقدية التي قد تتجاوز قيمتها مئات ملايين الدولارات. ومع مضي فترة الانتعاش التي قد تقل أو تزيد عن خمس سنوات بناء على مدى كفاية السيلولة المتاحة للاستثمار في قطاعات إنتاجية، من المتوقع أن يشهد الاقتصاد الفلسطيني انكماشاً بفعل آلاثار التي ستحل بأنماط ومعدلات الإنفاق الاستهلاكي على السلع والخدمات عند نفاذ تلك السيولة، والتي قد لا تدور بالقدر الكافي لتنمية الاقتصاد الفلسطيني وحسب، وإنما قد تُعرضه لتصدعات نتيجة التضخم الذي قد ينتج عن ارتفاع الأسعار نتيجة ازدياد الطلب على الخدمات والسلع الاستهلاكية بفعل طفرة السيولة تلك. قد يرى البعض مبالغة في ذلك التشخيص ومدى فداحة التبعات التي قد تترتب عليه، مستشهدين بقدرة شعبنا على التحوط والصمود والإدخار حتى في أصعب الظروف. لكن، ورغم ما ينبغي أن تعنيه قدرة شعبنا "النسبية" تلك من فخر واعتزاز لنا جميعا، يبنغي أن يراعي أي إدعاء بالمبالغة حتمية تأثر أنماط ومعدلات الإنفاق والإستهلاك بقيم السيولة المالية المتاحة خاصةً وأن قيم مكافأة نهاية الخدمة التي قد يتم صرفها لحوالي 652,500 من العاملين قد لا تكون كافية -بحكم محدوديتها على المستوى الفردي- لإقامة مشاريع إنتاجية قادرة على توليد الدخل اللازم لاستمرار تداول السيلولة بشكل يمكن من خلق توازن مستدام بين العرض والطلب للحيلولة دون حدوث أي تضخم اقتصادي. كما ينبغي ألا نتناسى ضعفنا الفطري كبشر، وآباء وأمهات على وجه الخصوص، أمام متطلبات معيشة أطفالنا بالغة ما بلغت، خاصةً عند توفر فائض في السيولة وبشكل خاص عندما يكون أطفالنا على علم-حتى وإن كان سطحياً- أنها تكفي لتلبية تلك المتطلبات. وبصرف النظر عن مدى شمولية تلك الطروحات، لا ضير من أن نتوقع من المخططين وصانعي السياسات اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية الممكنة لمساعدة مختلف فئات المجتمع على تنظيم شؤونها، بكل ما يتطلبه ذلك من إعادة نظر في مسألة صرف مكافأة نهاية الخدمة من أجل حماية الاقتصاد الوطني من تبعات أية تغيرات غير طبيعية في أنماط ومعدلات الإنفاق والإستهلاك، خاصةً وأن نتائج تلك التغيرات قد تنعكس في تضخم وكساد يرفع من معدلات البطالة والفقر إلى مستويات غير مسبوقة. كما أن البعض قد يرى مغالاةً أو تهويلاً فيما سبق ذكره مستشهدين بتجارب سابقة، كتجربة الأردن الشقيق، الذي لم يشهد اقتصاده كساداً وتضخماً بنفس القدر المتوقع أن يحدث لدينا لأن العمالة والاستثمار والاقتصاد الأردني ككل منفتحة على الاقتصاديات المجاورة بشكل أكبر بكثير من الإقتصاد الفلسطيني الذي يواجه أبناؤه معيقات استثمارية شتى في مناطق (ج) و (ب) وحتى (أ)، والتي لم ولا تواجه الاقتصاد الأردني أو أي اقتصاد آخر. كما أن الكيان الفلسطيني غير قادر حتى اللحظة على أن يفتح أبوابه للاستثمارات الخارجية بسبب القيود المفروضة على حرية تنقل الأفراد وتبادل السلع والبضائع مع الخارج وبين محافظات الوطن؛ هذا بالإضافة إلى أن الأبواب الموصدة في وجه العمالة الفلسطينية الخارجية ذات خصوصية بالغة بسبب القيود المروضة على طالبي العمل من حملة جوازات السفر الفلسطينية و/أو اضطرار عمالتنا للإنتظار طويلاً حتى الحصول على تصاريح أو تأشيرات عمل مقارنةً بالعمالة الأردنية أو العربية بشكل عام. وقد يرى البعض أن التزام "صاحب العمل بأداء مكافأة نهاية الخدمة....في أي وقت وفقاً لاتفاق تسوية" حسب نص القانون ليس موجباً للصرف فوراً عند سريان القانون، وبالتالي فإن فداحة التبعات المترتبة على تلك الطفرة لن تكون بالقدر المتوقع. مثل هذا الرأي قد لا يصمد أمام مطالبة العاملين المتوقعة لأصحاب العمل بسرعة صرف مستحقاتهم التي أوجب قانون الضمان الاجتماعي صرفها في أي وقت، وعدم تركها لدى أصحاب العمل إلا لقاء بدل معلوم موزاي لما هو معمول به وفق الأعراف المصرفية، على سبيل المثال. يجب أن نتفادى انشغال العاملين وأصحاب العمل مستقبلاً وأن ننزع فتيل أية اضطرابات أو استقالات قد تحدث لضمان الحصول سريعاً على "تحويشة العمر"، التي بدأ كثيرين بالتفكير في أوجه إنفاقها منذ بدء الحديث عن صرف مستحقات نهاية الخدمة عند تطبيق الضمان الاجتماعي. إن الإبقاء على مكافأة نهاية الخدمة لدى أصحاب العمل سيحمي فئة (من فئات أصحاب العمل) من التعرض لأزمات مالية قد تهدد استمرارية العمل نتيجة عدم توفر السيلولة اللازمة لصرف المستحقات، حيث أنهم قد يضطرون للاقتراض و/أو إجراء تقليص في العمليات التشغيلية من أجل توفير السيولة اللازمة لصرف مكافأة نهاية الخدمة لجميع العاملين دفعة واحدة بعد أن نص قانون الضمان الاجتماعي على أدائها "..في أي وقت، وفقاً لاتفاق تسوية". ولا يخفى على أصحاب العمل مدى المنافع والمزايا الأخرى المترتبة على عدم صرف أرصدة المكافأة حتى مع استمرارهم باحتسابها على أساس آخر أجر يتقاضاه العامل، خاصةً وأن كثيرين منهم يستفيدون من أرصدة مكافئة نهاية الخدمة القائمة بطرق شتى تعزز ملاءتهم المالية بما قد يفوق التكلفة المترتبة على استمرار احتساب المكافأة على أساس اخر راتب، وذلك على الرغم من أنها تندرج ضمن إطار الممارسات غير السليمة. من ناحية أخرى، من المتوقع أن يسهم عدم صرف المستحقات في الحد من معدل الدوران الوظيفي للعاملين الذين تقل مدة خدمتهم عن 10 سنوات، الأمر الذي يمكن صاحب العمل من الحفاظ على الخبرات والكفاءات والحيلولة دون ازدياد وتيرة تنقلها من صاحب عمل إلى آخر لمدة تكفي لإدارة عملية نقل سلسة ومنظمة للخبرات من جيل الى جيل دون التعرض لازمات قد تنجم عن ازدياد وتيرة تنقل العمالة بين أصحاب العمل. كما يجب ألا يفوتنا دور مكافأة نهاية الخدمة في تعزيز قدرة صاحب العمل على تحقيق العائد على استثماراته في الموارد البشرية؛ والتي تتمثل إحدى طرق تحقيقها في تمكين صاحب العمل من أن يقتطع من مكافأة نهاية الخدمة التكاليف المترتبة على تدريب وتزويد العاملين بمعارف ومهارات جديدة في حال عدم الالتزام بالخدمة للمدة المحددة في سند/تعهد الالتزام بالخدمة الذي يوقعه المتدرب/العامل لقاء تحمل صاحب العمل تكاليف التدريب. إضافة إلى جموع العاملين وأصحاب العمل والمجتمع ككل، سيكون القضاء الفلسطيني من بين المستفيدين من عدم صرف مكافأة نهاية الخدمة تلك؛ لأنه سيتفادى مستقبلاً قضايا عمالية قد ترفع للبت في أسس صرف مستحقات نهاية الخدمة التي أوجب قانون الضمان الاجتماعي صرفها لجميع العاملين "في أي وقت" دون تحديد أساس للصرف، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً أن قانون العمل ساري المفعول لم يتناول أسس صرف المكافأة لمن هم على رأس عملهم، وإنما عالج عملية احتساب وصرف المكافأة في حالتي الاستقالة والإقالة حصراً. ينبغي التذكير بأن احتساب مكافأة نهاية الخدمة على أساس استقالة أو إقالة (للقائمين على رأس عملهم بعد سريان قانون الضمان الاجتماعي) يتطلب الاستعداد لمواجهة تبعات إدانة محتملة بالتحيزٍ لطرف على حساب الطرف الآخر وصولاً لإجحاف ما بحقوق العاملين أو أصحاب العمل؛ ذلك أن تفسير أداء مكافأة نهاية الخدمة على أساس استقالة سيكون مجحفاً بحق من هم على رأس عملهم من العاملين الذين تقل مدة خدمتهم عن 10 سنوات؛ ذلك أن اعتماد ثُلث أو ثُلثي راتب كأساس لاحتساب وأداء المكافأة يكون متوافقاً مع أحكام قانون العمل ساري المفعول عند الاستقالة فقط. كما أن تفسير أداء مكافأة نهاية الخدمة على أساس إقالة سينطوي على إجحاف بحق أصحاب العمل الذين يأخذون مخصصات مكافأة نهاية خدمة على أساس ثُلث راتب (للعاملين الذين تقل مدة خدمتهم عن 5 سنوات) وثُلثي راتب (للعاملين الذين تزيد مدة خدمتهم عن 5 سنوات وتقل عن 10 سنوات)؛ وبالتالي فإن استمرارية أعمالهم قد تتأثر سلباً نتيجة أي إلزام محتمل لهم بصرف مكافأة نهاية الخدمة على أساس راتب شهر كامل عن كل سنة خدمة بصرف النظر عن مدة خدمة العاملين لديهم. كما ينبغي ألا ننسى أن تعزيز استمرارية عمل القطاع الخاص تصب تلقائياً في مساعي وبرامج مكافحة البطالة والفقر، والتي قد يترتب على إخفاقها مزيد من الإحباط بين من سيتعرضوا للبطالة بعد تطبيق قانون الاجتماعي خاصةً من حيث أنهم لن يتلقوا أية مكافأة نهاية خدمة (بعد تطبيق قانون الاجتماعي) ولا حتى تعويض فصل تعسفي إذا ثبت أن تسريحهم قد حدث نتيجة خسائر أو إعادة هيكلة في المنشآت الاقتصادية التي تعرضت لهزات بنيوية بفعل طفرة السيولة. وما يستوجب إعادة نظر شاملة أيضاً هو أن مؤسسة الضمان الاجتماعي –وبحكم نص القانون– لن تتمكن من أن تصرف لهم مخصصات بطالة وحسب؛ وإنما توجب عليهم بحكم القانون أن يستمروا في أداء اشتراكات (مساهماتهم ومساهمات أرباب العمل) الى حين استحقاق راتب تقاعدي. وإذا قدر لذلك أن يحدث، فإن المجتمع الفلسطيني قد يشهد حالة من تدهور الشعور بالأمن الاقتصادي–الاجتماعي جراء ازدياد احتمال وقوع المزيد تحت طائلة الفقر؛ ذلك الهاجس الذي كانت تبدده سابقاً مستحقات نهاية الخدمة بما شكلته تاريخياً من دعائم اقتصادية واجتماعية ونفسية تعزز القدرة على تلبية الاحتياجات المعيشية لأطول فترة ممكنة أو حتى الحصول على وظيفة أو تصريح أو تأشيرة عمل. كان من الممكن لهذه المعضلة ثلاثية الأبعاد أن تحظى بحل ما لو أن مؤسسة الضمان الاجتماعي ستدفع مخصصات بطالة لكل مشترك يتعرض للبطالة، بصرف النظر عن مدة الاشتراك في مؤسسة الضمان الاجتماعي، وحتى الحصول على فرصة عمل. لكن، ولأنه من المفهوم لدى الجميع أن مخصصات البطالة ليست من ضمن التأمينات الاجتماعية المشمولة بتأمينات المرحلة الأولى المحددة في قانون الضمان الاجتماعي، فإن الحل الذي قد ثبتت جدواه حتى الآن لا يزال متمثلاً في استمرار إبقاء مكافأة نهاية الخدمة لدى صاحب العمل لقاء موزاي لما هو معمول به وفق الأعراف المصرفية، على سبيل المثال، أو حسب المادة (45) من قانون العمل رقم (7) لسنة 2000، والتي سيتوقف العمل بها عند سريان قانون الضمان الاجتماعي، ومع التأكيد على حق صاحب العمل بأن يطرح من مكافأة نهاية الخدمة (التي ستستحق الصرف عند انتهاء الخدمة أو عند بلوغ سن التقاعد) كامل قيمة الاشتراكات التي أداها (صاحب العمل) الى مؤسسة الضمان الاجتماعي منذ بداية سريان القانون. أخيراً، من الواجب التنويه إلى أن الطرح أعلاه لا يستند بالضرورة إلى نماذج نظرية أو عملية لأنظمة حماية اجتماعية واقتصادية على مستوى العالم ككل. لكن، ورغم أن ذلك قد يدفع للتشكيك في الجدوى والنتائج التي قد تترتب على ذلك الطرح بسبب غياب محتمل لتجارب ناجحة على أرض الواقع، إلا أن خصوصيات الواقع الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني والمعيقات والعقبات التي يمثلها الاحتلال، تقتضي منا جميعاً البحث خارج الأطر النظرية والعملية المألوفة، طالما أن الغاية تنحصر في تحقيق أقصى حماية اجتماعية واقتصادية ممكنة لشعب يتعرض لقيود استثنائية لم يسبق أن تعرض لها شعب ما على النحو الذي لا يزال يتعرض له الشعب الفلسطيني. |