|
"أيها الناس ارفعوا عني يديّ "
نشر بتاريخ: 19/10/2016 ( آخر تحديث: 27/10/2016 الساعة: 13:15 )
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
ليست السجون تلك المباني الحجرية المسلحة بالمعادن وبالقسوة والتي يحرسها السجانون والكلاب ويديرها مرضى ساديون بلا رحمة ولا غفران ، وليست تلك الزنازين الباردة والموحشة ، بل ان السجون في داخل صدر المواطن العربي أسوأ بكثير من سجون الحكومات والانظمة وأجهزة الامن . ان السجون في داخل صدورنا هي الأكثر توحشا وأشد برودة .
كنت لوقت قصير أعتقد ان الخلل يقتصر على الانظمة العربية البطريركية والاحزاب التي حملت جينات هذه الانظمة فصارت أسوأ واقسى . ثم اكتشف الان ، ان الامر زاد عن ذلك بكثير . نحن فقدنا الحرية منذ الف عام ، فقدنا الحريات الشخصية والحريات المجتمعية وحرية التفكير وحرية الابداع وحرية الاختيار وحرية الحركة وحرية المراة وحرية الرجل وحرية الطفل وحرية الفقير والمثقف . لو اجتمع المواطنون العرب على قلب رجل واحد ، وحطموا جميع الحكومات في ضربة واحدة ، لنشأ ظرف اسوأ تقوده احزاب اشدّ قسوة واقلّ رحمة على المواطن ، ولسوف تنتشر الفوضى ويعمّ الخراب ، كما يحدث الان . لاننا لم نخلق بدائل لهذه الحكومات المهترئة ولم نسع الى بناء جيل حر ومؤمن بالله وواثق بنفسه في مواجهة التحديات والخطوب ، بل أنشأنا جيلا يطلب تفريغا في الاجهزة الامنية ، او يتهافت على حضور باهت في تنظيمات تترنح تحت وطـأة الحكام والتجّار . نبكي لاننا لا نجيد الا البكاء الغريزي لدرجة لم نعد نصدق دموعنا ، أو اننا نقاتل لاننا غاضبون تائهون ضائعون ، ونهجم بلا خطة لاننا نعلم في دواخلنا ان ذلك مجرد شكل من أشكال الانتحار الذاتي الذي سوف يريحنا من قلق الحاضر وغموض المستقبل . تزاوجنا ، توالدنا ، وأنشأنا جيلا معجبا بنا لدرجة انه يشبهنا ، مع أننا نكره أنفسنا . فوقفنا امام المراّة نخجل من نظرة عتب تأتي من وسط بخار الحمام . حتى صار المرحاض هو المكان الوحيد الذي يشعر فيه المواطن العربي بالراحة ويحس فيه بالأمان . جمعنا المال ولم يحقق لنا رؤية ، وتولينا أعلى المناصب بعدما فقدنا الاحساس ، مشينا في شوارع مخيمنا وقريتنا والبودي جارد يحرسنا , أيحرسنا من خيالنا ومن أحلامنا ومن مشتهياتنا ؟ هو حارس خائف وحزين ويقنع نفسه أنه بمسدس سيحمي خائفا اّخر من نفسه . ونريد ان نثبت للراديكاليين اننا " أقوياء مثلهم " ، فذبحناهم مثلما ذبحونا ، وغرقت ايادينا بالدماء ، مواطن عربي يقتل مواطنا عربيا اخر ، لمجرد انه من طائفة أخرى او اسم مختلف . او من بلد مختلف او من بنك مختلف . في الهزيمة نجحت ام كلثوم ان تجمعنا على دارت الايام وسلو قلبي ويا مسهرني ، وحتى لو فات الميعاد ، وفي الصحوة ذبحنا بعضنا على نشيد موطني والجلال والكمال والبهاء والضياء . سنكون بحاجة الى مدارس جديدة ، وعلوم جديدة ، وقبائل جديدة وأحزاب جديدة وأنظمة جديدة حين نخلق مواطنا جديدا ، حين ننجب من ظهورنا أطفالا لا يخافون من أصدقائهم خشية ان يكونوا من العسس ، ولا يخافون من الأحلام . نخلق مواطنا صالحا قبل ان نتحدث عن وطن صالح ، نحتاج الى مواطن حنون يحب نفسه قبل أن يكره الاخرين ، وقبل أن نشتري باربعين مليار دولار صواريخ وبنادق من عواصم اكتشفت نقطة ضعفنا و لم تترك شيئا للصدفة . يذهب العربي الى المسجد ويرفع يديه الى الله ويطلب من الغفار الغفور ، الرحمن الرحيم . ألا يرحم الشعوب الاخرى !!! يدخل العاصي الى البار ويطلب الويسكي ويدعو الله وهو سكران ، ان يرزقه مالا كثيرا له ولاولاده !!!! يدخل الطفل الى الحضانة ليثبت لوالده انه هزم اقرانه وسخر من معلمته ولا يتعلم الا نشر جينات والده في مدرسة أخرى !!!!!! يدخل الضابط الى السجن ويجلد المظلوم ويطلب من الله ان يعطيه الصحة والعافية !!!! ثقافة القناع ذبحتنا قبل ان يذبحنا الشيخ الغاضب ، وقبل أن يجلدنا الضابط العصبي . وصرنا نختار ونفارق ونفاضل بين شيخ غاضب وضابط غاضب ، ونخفي خوفنا من المستقبل حتى لا يرى اطفالنا كم هزمتنا الحياة وثقافة الكذب . نباهي بفحولتنا وذكورتنا أمام الانثى . ونحن نعلم أننا لا نجرؤ على النظر في عيون مجندة صهيونية على حاجز قرب البيت ، فنعود لنتأكد أننا لا نزال رجالا ، فنضرب اخواتنا اللواتي أحببننا ونساءنا اللواتي اكتشفن سر خوفنا من أحلامنا . ثقافة القناع جعلتنا نكذب على أنفسنا وعلى أطفالنا وعلى نسائنا وعلى عشيقاتنا ، ونبحث عن أسماء وهمية نتقيأ بواسطتها حطام ثقافتنا على الفيس بوك . خلقنا عالما عربيا وهميا على التواصل الاجتماعي وشوارعنا ملئية بالجرذان والكلاب الضالة والامراض . أمشي في شوارع مدينتي فلا ارى سوى جيوشا عاطلة عن العمل وعاطلة عن الامل ، كاّبة عميقة وحطام بشري واهن . لكل شاب بلغ الرابعة عشرة من عمره ولا يؤمن بالله ولا يؤمن بوطنه ولا يؤمن بقضيته ولا يؤمن بالرحمة بين الناس ولا يؤمن بالمغفرة فهو كافر يعمل ضد نفسه وضد وطنه . حتى لو حمل كلاشنكوف وأصبح عقيد الحارة . ان أصعب الجراح تلك التي لا تنزف دما . " ولسوف يعطيك ربك فترضى " . |