نشر بتاريخ: 20/10/2016 ( آخر تحديث: 21/10/2016 الساعة: 01:40 )
بقلم السيد بو شاك مدير عمليات الأونروا في غزة
"لقد نجوت من الحروب الثلاثة الماضية ولكن المشكلة ليست هنا، فالحروب في هذا المكان تأتي وتذهب. ولكن الصراع الأكبر يكمن في عدم فقدان الأمل. والطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها القيام بذلك هي الانسحاب بعيدًا، وخلق عالمي الخاص والنسيان." هذا ما أخبرني به علي صاحب الستة وثلاثين ربيعًا والذي يعمل نادلًا في أحد المقاهي في مدينة غزة.
وُلد علي في غزة ومنذ عشرة أعوام تقريبًا يعيش تحت حصارٍ خانق مفروض على الأرض والبحر والسماء. وقد دخل الحصار عامه العاشر في يونيو 2016 مما أدى لعزل علي وبقية سكان قطاع غزة والبالغ عددهم 1.8 مليون في محيطٍ صغير تبلغ مساحته 365 كيلو متر مربع. وتعد غزة واحدة من أكثر المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في العالم وتعاني من الفقر الشديد والصراعات المتكررة.
أزمات مزمنة من نقص الكهرباء والوقود – مع انقطاع الكهرباء لمدة تتراوح ما بين 18 و 22 ساعة يوميًا- تلوث مياه شديد – 95 في المائة من المياه الجوفية في غزة غير صالحة للشرب - وبنى تحتية مدمرة كتذكير كئيب للجولات المتكررة من العنف المسلح- هذا هو الواقع اليومي في غزة حيث يُحرم الغزيون من مستوى معيشي إنساني. ولم يكن هذا هو الحال دائماً: فقبل فرض القيود على حركة الأفراد والبضائع، كان مجتمع غزة مجتمعاً متطوراً نسبياً مع قاعدة إنتاجية واقتصادٍ مزدهر.
ولكن الحصار والإحتلال أدى لعكس اتجاه هذا المسار، وفاقم الأمر، العمليات العسكرية الاسرائيلية والدمار واسع النطاق الذي تخلفه، وتخضع اليوم غزة لما تطلق عليه الأمم المتحدة "تقويض التنمية". بفضل موقعها المطل على البحر الأبيض المتوسط ما بين مصر وإسرائيل، كان من الممكن أن تشتهر غزة بنخيلها وفاكهتها وشواطئها البيضاء. ولكنّها بدلًا من ذلك، تشتهر بأزمة صحية ومياه صرف صحي عنونتها مجلة التايمز تحت مسمى " قنبلة صحية عالمية موقوتة".
لم تكتفِ الأونروا بالحديث مراراً عن الأثر الكارثي للصراعات المتكررة في غزة ولكنها –جنبًا إلى جنب مع أعلى المستويات في الأمم المتحدة- أدانت وبشكل متكرر إطلاق الصواريخ من القطاع. فنحن منزعجون من كافة المخاطر التي قد تؤدي لخسارة في الأرواح. وفي الوقت ذاته، نؤمن بأن القيود المفروضة حاليًا والمتزايدة على حركة الأفراد والبضائع قد تؤدي وبشكل كبير جداً الى العكس تماما من النتيجة المرجوة من الاسباب المعلنة التي تم فرضها لأجلها ألا وهو الحفاظ على أمن اسرائيل. وتمثل هذه القيود المشددة خطراً محتملاً لتزايد مشاعر الإحباط والعنف والتطرف والتي من الممكن أن تكون سبباً في اندلاع صراع مدمر آخر في قطاع غزة.
سوف تصبح التحذيرات المتكررة واقعاً ملموساً
لقد أصدرت الأمم المتحدة تحذيرات متكررة حول الأوضاع المقلقة والجسيمة السائدة في القطاع الصغير. وقد حذرنا بالفعل قبل أربعة أعوام أن قطاع غزة سيصبح غير صالح للعيش – لن يكون هناك ما يكفي من الموارد للسكان للعيش- بحلول العام 2020. وفي أقل من أربعة أعوام، تكررت هذه التحذيرات بشكلٍ أكبر منذ ذلك الحين. في حال عدم اتخاذ أية إجراءات جوهرية وفورية لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع مثل الحصار والذي يجب رفعه بالكامل، ستمسي هذه التحذيرات حقيقة واقعة ولن تكون مجرد كارثة تلوح بالأفق.
عندما يصبح المكان غير صالح للعيش يضطر سكانه لمغادرته. هذا ما يحدث عند وقوع كوارث بيئية مثل الجفاف، أو صراعات كما هو الحال في سوريا.
ولكن على الرغم من ذلك فإن سكان قطاع غزة محرومون أيضًا من هذا الملاذ الأخير حيث لا يمكنهم الحركة خارج القطاع البالغة مساحته 365 كيلومتر مربع. لا يمكنهم الفرار من الفقر المدمر ولا من هاجس نشوب صراع آخر. لا يملك الشباب في القطاع وهم متعلمون وبشكل كبير –ما يقرب من 50 في المائة من السكان دون سن السابعة عشر- خيار السفر للدراسة خارج غزة أو البحث عن عمل في أي مكان خارج السياج الفاصل ونقطتي التفتيش الحدوديتين المحكمتين في شمال وجنوب قطاع غزة.
وفي ظل إغلاق معبر رفح الفاصل ما بين مصر وغزة بشكل كامل فيما عدا أيام قليلة خلال العام، وحرمان اسرائيل حتى الحالات الإنسانية أو موظفي المنظمات الدولية من الخروج ، لا يحظَ السواد الأعظم من السكان بفرصة الحصول على "تصاريح" السفر التي يسعى وراؤها الكثيرون. كما لا يستطيعون مغادرة القطاع عبر البحر دون الخوف من الاعتقال أو التعرض لإطلاق النار من قبل البحرية الإسرائيلية أو المصرية كما لا يمكنهم تسلق الجدار الفاصل شديد الحراسة ما بين اسرائيل وغزة دون مواجهة المخاطر ذاتها.
لقد قضى الحصار بشكل فاعل على ما تبقى من طبقة متوسطة في غزة مما حول تقريبًا كافة السكان الى الاعتماد على المعونات والى ويلات الفقر المدقع. وبلغت نسبة البطالة 41.7 في المائة في الربع الثاني من عام 2016 – وهذا لا يشمل نسب البطالة المقنعة العالية - كما أجبر 80 في المائة من السكان على الاعتماد على المساعدات الإنسانية ليتمكنوا من تغطية احتياجاتهم الأساسية مثل الغذاء وأيضاً التعليم الأساسي، والرعاية الصحية الأساسية، والمأوى اضافة الى أمورٍ أخرى مثل البطانيات، والفرشات، أو مواقد الطهي. وفي هذا السياق، قدمت الأونروا خلال العام 2000 – قبل الحصار- المساعدة الغذائية لـ 80,000 مستفيد بينما تدعم اليوم ما يزيد على 930,000 شخص – مما يعني زيادة اثنا عشر ضعفًا.
الأثر النفسي والاجتماعي: مستويات عالية من الضغط النفسي والضيق
وقد اشتملت الآثار المركبة للحصار على أثر نفسي، ربما أقل وضوحًا ولكنّه واضح على السكان في غزة. بغض النظر عمّا تبقى لدى السكان من قدرة على التكيف، فإنها تتلاشى مع كل يوم يستمر به الحصار. وقد اتضح لبرنامج الصحة النفسية المجتمعية في الأونروا أن اللاجئين الفلسطينيين في غزة يعانون وبشكل متزايد من مستويات عالية من التوتر والضيق النفسي. كما وتشير ارتفاع حالات الانتحار المسجلة في أرجاء قطاع غزة – والتي لم تكن ظاهرة معروفة ولكنّها غدت أمر معتاد- إلى استنزاف قدرات الفلسطينيين على التأقلم.
وفي أوساط الأطفال اللاجئين الفلسطينيين، تقدر الأونروا وجود 30 في المائة على الأقل ممن هم بحاجة إلى تدخلات نفسية اجتماعية منظمة. وتتمثل الأعراض الأكثر شيوعًا ف: الكوابيس، اضطرابات الأكل، والخوف الشديد، والتبول اللا إرادي.
"يشكل الملل العامل الرئيسي وراء الاكتئاب واليأس ما بين الشباب حيث يجلسون في الظلام – حرفيًا نتيجة لانقطاع الكهرباء- ويشعرون ان لاحول لهم ولا قوة. كما يفكرون بحياتهم ولا يجدون سوى الحلول السلبية. غزة مليئة بالأفكار، هناك كم كبير من الإبداع في هذا المكان ولكنّنا لا نركز بشكلٍ كافٍ على أفكارنا بل نركز على الاعتماد على المعونات. فقد أدى الحصار لخلق حالة حصار ذهنية في عقول الشعب إذ بات الشباب ينسحبون. فلمَ يتوجب عليهم المحاولة في حين تواجههم "لا" كبيرة دومًا وفي كل وقت؟" هذا ما خلصت اليه رنا قوفة، قائدة مجتمعية شابة من المنطقة الوسطى في غزة، المشاعر التي تنتاب الشباب الغزي. " إن الحياة في غزة عبارة عن دائرةِ قاسية ومن سيساعدنا على كسر هذه الدائرة؟" تساءلت رنا.
إنّ الحصار المفروض على غزة ليس مجرد مصطلح سياسي كما انه ليس كارثة طبيعية "وقعت". الحصار على غزة هو من صنع الإنسان، هذه كارثة تتعلق بحياة البشر وبقصصهم الحقيقية. حان الوقت لأن نعيد لغزة وشبابها مستقبلهم. يجب رفع الحصار.