|
انتخاب ترامب عنوان لأزمة النظام السياسي اﻷميركي
نشر بتاريخ: 14/11/2016 ( آخر تحديث: 14/11/2016 الساعة: 02:10 )
الكاتب: نعيم الأشهب
يروي أهل عكا عن أسلافهم الذين عاصروا الحكم العثماني للبلاد ،أنه حين توفي القاضي الشرعي للمدينة، قام الوالي التركي بتعيين قاطع طرق مكانه. ولكن بينما كان أهالي المدينة يشيعون القاضي المتوفي الى مقبرة المدينة ، اعترض الجنازة القاضي الجديد، وأمر بإنزال النعش واقترب منه وفك الكفن ، وأسرّ في أذن الميت بضع كلمات ، ثم أمر برفع النعش ومواصلة المسيرة الى المقبرة. لكن المشيعين المدهوشين طالبوا بمعرفة ما أسره القاضي الجديد في أذن سلفه المتوفي . قال لهم لقد قلت له، إذا سألك أهل اﻵخرة عن أحوال البلد وكيف تركتها وراءك، فأخبرهم بأنني أصبحت القاضي الشرعي فيها، وهذا كاف ليدركوا ما وصل اليه الحال!.
أﻻ يكفي نجاح ترامب ليكشف الى أي مدى بلغت أزمة النظام السياسي ، عدا اﻹقتصادي - اﻹجتماعي، في الوﻻيات المتحدة؟!. لقد جاء هذا الرجل ليس فقط من خارج الحزب الجمهوري وفرض نفسه كمرشح له، بل ومن خارج الطبقة السياسية. كل "مؤهلاته" أنه صاحب مليارات، طرأ على باله أن يغدو رئيسا في بلد يتحكم بمصائره الواحد بالمئة من أصحاب الثروة . أما الحملة اﻹنتخابية ، فقد بلغت من التدني والهبوط في مستواها حدا غير مسبوق في تاريخ الحملات اﻹنتخابية اﻷميركية، حيث طغى عليها الردح والفضائح الشخصية ، وكان لدى الطرفين ما يكفي في هذا المجال، وذلك بدل النقاش والحوار المسؤولين حول القضايا السياسية واﻹقتصادية واﻹجتماعية ، التي تتفاقم أزماتها، ومعها تتفاقم مصاعب المواطن اﻷميركي وشكواه.وقد بلغ مستوى اﻹسفاف في هذه الحملة بين المرشحين اﻷثنين حد وصف المواطن اﻷميركي لها بالسيرك ومهرجيه. ويلفت اﻹنتباه في هذه الحملة اﻹنتخابية تجند أذرع مؤسسة النظام اﻷميركي المختلفة ، وبخاصة اﻹعلامية العملاقة ، في خدمة مرشحة الحزب الديموقراطي ، الى حد تزييف هذه المؤسسة اﻹعلامية اﻷقوى في العالم ﻹستطلاعات الرأي العام المتكررة، ﻹيهام الناخب اﻷميركي بحتمية نجاح كلينتون . وفي التقييم اﻷولي يمكن اﻹعتقاد بأن نجاح ترامب جاء حصيلة العوامل التالية:اﻷول - تمرّد قطاع مرموق من الناخبين ، وﻷول مرة على هذا النحو المتحدي ، لمؤسسة السلطة التي تجندت لصالح كلينتون، وتعبيرا عن نزع الثقة بهذه المؤسسة. والعامل الثاني - تأثير ديماغوغية ترامب الذي ركّز على مخاطبة الغرائز البدائية والمتدنية لقطاع من العمال البيض بأن المهاجرين وأفراد اﻷقليات ينتزعون منهم فرص العمل ، ووعوده ، عدا عن طرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين ، بإعادة المصانع اﻷمريكية التي انتقلت الى الصين ركضا وراء العمالة الرخيصة. وهذا التهريج العنصري شبيه بما تنادي به " ماريان لوبان" وحزبها الفاشي في فرنسا وأمثالهم في دول القارة العجوز. والعامل الثالث - عزوف قطاع واسع عن المشاركة في التصويت ، وتحديدا من قطاعي الشباب والنساء الذين التفوا بحماس حول "بيرني ساندرز" قبل أن تتآمر مؤسسة الحزب الديمقراطي على إخراجه من حلبة المنافسة ، رفضا منها لبرنامجه المتميز في مجال اﻹصلاحات اﻹجتماعية بشكل خاص . وهذا القطاع من الشباب والنساء هو تحديدا الذي نزل الى الشوارع للتظاهر بمجرد اﻹعلان عن نجاح ترامب . بينما على صعيد آخرارتفعت في الداخل اﻷميركي، أصوات في وﻻية كاليفورنيا اﻷغنى في اﻹتحاد تطالب باﻹنفصال، هربا من تبعات اﻷزمات اﻹقتصادية المالية المتفاقمة، حيث بلغ حجم الدين العام على خزينة اﻹتحاد تسعة عشر تريليون دوﻻر، وسيجري استفتاء في هذه الوﻻية على هذه القضية عام ٢٠١٩. ومن الواضح اﻵن ، أن الحزب الديموقراطي بإخراجه ساندرز من حلبة المنافسة ، كان كمن يطلق الرصاص على قدميه. ذلك أن ساندرز ببرنامجه الذي تضمن إصلاحات اقتصادية واجتماعية جرئية وغير مسبوقة ، في حملات انتخابات الرئاسة اﻷميركية ، قد أثار حماسا واسعا في أوساط الشباب والنساء واﻷقليات ، الذين يستنكفون ، عادة، عن التصويت لقناعتهم بعدم الجدوى . لكن من الواضح أن مؤسسة الحزب الديموقراطي تفضل، دون تردد ، نجاح ترامب على نجاح ساندرز ببرنامجه الذي يتعارض مع مصالح رأس المال الكبير الذي يمثله الحزبان الديموقراطي والجمهوري على حد سواء . ومعروف أن ترامب وعد خلال المعركة اﻹنتخابية، باﻹضافة الى شعاراته العنصرية اﻹستفزازية في تطرفها ، بخاصة ضد المسلمين واﻷقليات ، والمسّ بكرامة المرأة ، وطرد ملايين المقيمين غير الشرعيين وبناء الجدار الفاصل مع المكسيك .. وعد كذلك بإلغاء اﻹصلاحات التي أدخلها أوباما على نظام الرعاية الصحية ، كما وعد، بالمقابل، بتخفيض الضرائب (أي الضرائب المباشرة) لصالح رأس المال الكبير. وفيما يتعلق بالغاء اصلاحات أوباما لنظام الرعاية الصحية وتخفيض الضرائب على راس المال ، عاد ترامب ، ما بعد نجاحه ، لتأكيد التزامه بهما، ما يؤكد أنهما ليسا مجرد شعارين عابرين في الحملة اﻹنتخابية بل برنامج عمل. وهذا يعني ايغال جديد من الواحد بالمئة في اعتصارهم للتسعة والتسعين بالمئة من المجتمع اﻷميركي، وما يعنيه ذلك من جنوح خطير نحو اليمين الفاشي. أما على صعيد السياسة الخارجية ، فعدا وعوده بإلغاء اﻹتفاق النووي مع إيران ونقل السفارة اﻷميركية الى القدس المحتلة - هذان الوعدان اللذان ليس من السهل تنفيذهما ﻻعتبارات دولية - فقد شكك بضرورة مواصلة اﻹلتزام بالناتو، الذي تتحمّل الوﻻيات المتحدة ٧٥٪ من نفقاته ، وطالب أوروبا برفع مساهمتها في نفقاته ؛ علما بأن هذا الحلف مسخر في خدمة المصالح اﻷميركية، في اﻷساس. وقد جاءت ردة الفعل اﻷوروبية اﻷولية على هذا المطلب بإرتفاع أصوات تطالب بتشكيل قوة دفاع أوروبية بمعزل عن الناتو؛ بينما صرح رئيس المفوضية اﻷوروبية "جان كلود يونكر" قائلا:ان انتخاب ترامب رئيسا للوﻻيات المتحدة يشكل خطرا على العلاقات بين اﻹتحاد اﻷوروبي والوﻻيات المتحدة. من جانب آخر، طالب ترامب أنظمة الخليج بدفع أجور"حمايتها" التي تتوﻻها الوﻻيات المتحدة ، متجاهلا عشرات مليارات الدوﻻرات التي تدفعها هذه اﻷنظمة ، سنويا، لشراء اﻷسلحة اﻷميركية. ومن الواضح أن اﻹستجابة لمطلبه هذا سيعمق أزمة هذه اﻷنظمة المتفاقمة هذه اﻷيام. ولعلّ البند الوحيد في دعايته اﻹنتخابية الذي يستحق ترقب مدى اﻹلتزام به هواعلانه عن العزم لتحقيق علاقة أفضل مع روسيا، مما قد ينعكس إيجابا على الوضع في منطقة الشرق اﻷوسط ، بخاصة في اﻷزمة السورية. وكان تعقيب موسكو على ذلك يتسم بتمني التزامه بهذا التوجه. ويمكن اﻹعتقاد بأن هذا التوجه هو حصيلة الفشل اﻷميركي المدوي في اﻷزمة اﻷوكرانية ، كما في أزمات الشرق اﻷوسط.لكن تصريحات ترامب السلبية حول مستقبل العلاقة مع أوروبا وحلف الناتو، تفسّر اعتراض بعض قادة الحزب الجمهوري نفسه على ترشح ترامب للرئاسة اﻷميركية ، وكذلك دعم مؤسسات اﻹدارة اﻷميركية لحملة هيلاري كلينتون اﻹنتخابية . قديما قيل: كل الطرق تؤدي الى روما.وإذا كان انتخاب ترامب اليميني العنصري المتطرف للرئاسة اﻷميركية هو تعبير عن تفاقم أزمة النظام الرأسمالي التي بلغت حد العفونة، فإن برنامجه المعلن وموقعه الطبقي كفيلان بتعميق اﻷزمات اﻹقتصادية - اﻹجتماعية في الداخل اﻷميركي ، وبالمزيد من عزلة الوﻻيات المتحدة وتراجع سيطرتها على اتباعها في الخارج ، بما في ذلك خلخلة بنيان حلف الناتو نحو انهياره المحتوم ، وكل هذا لصالح شعوب العالم بما في ذلك لصالح شعبنا الفلسطيني. |