|
انجذابات خادعة
نشر بتاريخ: 17/11/2016 ( آخر تحديث: 17/11/2016 الساعة: 17:04 )
الكاتب: عطا الله شاهين
كانتْ تلك المرأة تحسُّ بانجذابات غريبة لم تذكر بأنه أحست بها من قبل، على الرغم من أنها لم تكن المرة الأولى، التي تستعدَّ فيها لملاقاةِ شابّ، ماذا بها؟ أهو صوته الجذّاب الذي سمعتْه مراتٍ كثيرة عبر المذياع، أم صورته التي فتّشت عنها حتى لقيتها وباتَ فؤادها هو المحبوس؟ تذكر تماما تلك الفتاة، حينما اندفعتْ أصداء صوته المرهف اللين المستتر بليونة إلى أسماعها عبر المذياع، تلك الليونة التي لا يعيها إلا كل مصغي فقط، بينما كانت تقود دراجتها الهوائية وراجعة من عملِها في زحمة سير المدينة، التي باتت تشاهد طرقاتها كالمسارب الضيقة غير المستوية، والتي تحاول الشاحنات الكبيرة المرور فيها، فلا يزيد الأمر عن إغلاق هذه المسارب، ويبقى الناس جالسين بداخل السيارات، واهنين ويرجون في محاولة انقاذ من هؤلاء الغرباء، الذين لا يكترثون لمعاناة البشر.
لكن ما زال صوته الجذّاب يجذبها كلما أصغتْ باهتمام وسمعتْه، هذه الليونة الممتزجة بالغمّ تجعلها تحسّ باختلاج مختلف يدبّ في جسدها، سؤال يلجّ عليها بجنونٍ منذ اتفقا على المواعدة، كيف يكون اختلاط الصوت بالشكل والروح في وقت واحد، هل ستسرّ بذلك الاختلاط، هل سيبيتُ مكتملا، وتحسّ به كما ظنّته، هل سيكون أروع؟ هل سيكون أردأ، هل من المحتمل أن تضيّع شعورها به إذا تمّت الصورة، وتظل متنسّكة تصلّي في حجرة صوته الجذاب عبر المذياع. خواطر كثيرة تهبّ في رأسها، ولم تهبها الوقت اللازم لأخذ حقّ من الوسن، أتى المساء، نشّطها الحمّام الساخن، وجعل النشاط يدبّ في جسدِها بعد كسلٍ قاتل انتشر نهارا بأكمله، لبست تنورةً حمراء وبلوزة صفراءء، انتعلت الحذاء الأصفر ذي الكعب العالي، وتعطرت بروائحها المفضلة، وأحسّت برعدة إزاء شمّها زادت من حالة الحيوية المسائية، التي قلّلت كثيراً من شدة قلقها. انتقتْ مطرحاً يألف فؤادها إليه، مطعم قديم بديكورٍ جذّاب يشرف على البحر له شبابيك زجاجية كبيرة تجعلها تتأمل هذا البحر الهائج في اضطراب، فضلت اللقاء الساعة الثامنة مساء، وهو الوقت الذي عادة ما تكون فيه في قمّة حيويتها الذهنية، ولم ترد أن يشوّش هدوء ملاقاتهما أي متطفل، حتى لو كانت رنات موبايلها. قعدتْ على أريكتها المحبّبة بجوار بحرها رفيق حياتها، قعدتْ تنتظر، الوقت كان يمر ببطء شديد، رنتْ متثاقلة إلى الموبايل لترى الوقتَ، ولاحظت بأنه مضى أكثر من ربع ساعة، وبينما تلك الفتاة كانت ترنو إلى ساعة الوقت على الموبايل بانفعال، سمعت صوتا يصيح بلين غريب وفيه جذب ساحر، وسمعت منه كلمة سلام، فقامت وحيّت صاحب الحسّ في سرور مجنونٍ وناظرة إلى ملامحه وجهه الرقيقة متأملة سحر بذلته العادية. جلس ذاك الشّابّ بجانبها وأخذا كليهما يتحدثان في مواضيع كثيرة، وبدا كلامها ممتعا له، فهو كان يتكلم ويردّ، وأحيانا يحتجّ ويفكّر في حديثها في انتباه عادي، اعتادت هي أن تكون بريق الجلسات بين صديقاتها، فهي تمتلك فنّ إدارة الثرثرة الممتعة بيسرٍ يعاونها في ذلك مزاجها المبتهج، بدأت تحسّ به ينبلج وهو معها، وهي تعي أن الشابّ يسطع ويتوهج فقط برفقة المرأة الملائمة، ولكن بعد مرور ما يقرب من الثلاث ساعات، بدأ انجذابها يخفت قليلا، انتابها شعور قوي بأنهما صديقان يحبّان الثرثرة ليس إلا، وتساءلتْ أين ذلك الانجذاب المستور، الذي كانت تحسّ به حين تسمع صوته الجذّاب من خلال المذياع، هل كان جزءاً من هذا الانجذاب مجرد وهمها، أو من تفاعل صوته مع حلقة برنامجه، الذي عادة كانت تحاور أمور الهوى، والغرام، فظنته البطل المختبئ لهذه الحكايات المتنوعة. أضاعتْ انتباه تركيزها في الحديث معه، ولاحظ هو ذلك، وتغاضاها بذكائها الذكوري، وتحجّج بمرور الوقت بسرعة، وأنه مرتبط بموعد عمل ضروري مهمّ ، وشكرها على استضافتها اللطيفة لاحتساء النبيذ الغريب الطعم، فرجعتْ إلى بيتها والتفكير كان يوشك أن يخنقها، أين هيئته التي كانت في عقلها، هيئته الروحية التي تجسدت بداخلها على مرّ السنتين الماضيتين، فهمتْ على حين غرّة من التفكير أن عقلها حاول أن يخلط بين ما تحسّ به في خيالها، وبين حقيقة ما شاهدتْ فلم تقدر. أسبوعان مضيا، وحياتها تمشي بذاك اضطرابها، وإن كفّت عن سماع حلقات برنامجه، الذي كان مفضلا لديها. وذات مساء بينما كانت قاعدة هي أمام جهاز تلفازها القديم تشاهد برنامجا عن الحُبِّ والشبّاب، وإذ بان هو ذاك الشاب الذي التقته قبل أسبوعين كان قد دُعي كمتحدّث من قبل المحطة الفضائية للحديث عن الحُبّ والشّباب، ابتسمتْ بحزن، فقامتْ وأسكتت صوته بكبسةٍ على الريموت، وراحت تتبصره مرة أخرى، فأطفأت الجهاز، وخطت نحو مخدعِها لتحسم وقتاً صعباً حانَ له أنْ ينفذَ من انجذابات خادعة. |