|
بين ريتا وعيوني بندقية.. محمود درويش
نشر بتاريخ: 18/11/2016 ( آخر تحديث: 18/11/2016 الساعة: 14:28 )
الكاتب: عماد شقور
ليس أمراً جيداً أن يكتب المرء عن قضايا تتعلق به شخصيا أو باصدقاء شخصيين له. ذلك يشحن الكلام بعواطف ومشاعر لا شأن للقارئ بها، فهي أولاً، لا تهمه، وهي ثانياً، تقحمه إلى ساحة متخمة بعواطف جيّاشة، هو في غني عنها، وموضوعها غريب عليه، وهي، فوق ذلك، معرّضة للاتهام بالتحيّز، مهما كان كاتبها موضوعياً، ومهما امتلك من قدرة على التمييز بين الموضوعي والذاتي.
دافعي لكتابة ما يلي هذه المقدمة، هو ما حفلت به وسائل الاتصال والتواصل الحديثة من أخبار وتعليقات إضافة إلى بعض الصحف الفلسطينية، حول زيارة طلاب إسرائيليين في الأسبوع الماضي لضريح ومتحف شاعر فلسطين الكبير، الراحل محمود درويش، في رام الله. أول ما لفت انتباهي لما خصصت له هذا المقال، خبر منشور تحت عنوان يخلف يتهم المدني بالتطبيع ويحمّله مسؤولية اقتحام إسرائيليين متحف محمود درويش . وجاء في الخبر: فتح الروائي الفلسطيني يحيى يخلف النار على عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، محمد المدني المسؤول عن ملف التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، والذي نسق مؤخرا لوفد إسرائيلي لزيارة ضريح الشهيد الرمز ياسر عرفات ومتحف الشاعر الكبير محمود درويش، والتي قوبلت بالرفض والإدانة من قبل القائمين على متحف محمود درويش ورفضوا التعاطي أو الخروج من مكاتبهم لاستقبال الوفد الإسرائيلي. في التقصي عن الخبر ومصدره، تبين لي أن يحيى يخلف قد نشر على صفحته الخاصة في الفيسبوك تدوينة قال فيها: يتحمل السيد محمد المدني ومؤسسته إقحام متحف محمود درويش في هذه الزيارة. المتحف والمؤسسة لا يتعاملان مع وفود إسرائيلية. ومدير المتحف والعاملون به [الصحيح فيه] اعترضوا ولم يغادروا مكاتبهم ولم يرافق أي منهم الوفد. زيارة غير مرحب بها. وأقول للسيد المدني، للقيادة السياسية أن تجتهد في السياسة وتتحمل المسؤولية لكن ليس من حقها ان تقترب من الثقافة بسوء أو بشبهة أو بإرباك نحن ضد التطبيع الثقافي. الثقافة الفلسطينية قلعة صمود. لا للإساءة لمحمود درويش وتراثه . تابعت التقصي حول هذا الموضوع لسببين: أولهما أن المسألة مثيرة وجديرة بالاهتمام، وثانيهما أنه تربطني بالأسماء الثلاثة علاقات خاصة ومميزة، أعتز بها. فشاعر فلسطين الراحل محمود درويش، تقاطعت دروبنا، هو وانا، في كل مراحل ومفاصل حياتينا: من مرحلة الدراسة الثانوية حين كان تلميذا في مدرسة الرامة، وكنت تلميذا في مدرسة الناصرة، والتقينا مع عديد من أبناء جيلنا لتشكيل رابطة طلاب الثانويات ، ثم أقمنا معا في مرحلة شبابنا المبكر في حيفا في مطلع ستينات القرن الماضي، ثم عدنا والتقينا في القاهرة في مطلع السبعينات، حيث أقمنا فيها، ثم التقينا في بيروت إلى حين خروج م. ت. ف. منها، ولحق ذلك اللقاء في تونس، ثم حين أقمنا في عمّان، وبعدها في رام الله، (بفضل اتفاقية اوسلو). وشاءت الأقدار أن نقضي معا آخر ليلة له في رام الله، (بترتيب وحضور الصديق جواد بولس)، حيث غادرها صبيحة اليوم التالي في رحلة العلاج في أمريكا… وبكيته بدمع غزير حين عاد في كفن . أما الصديق محمد المدني فقد تعارفنا منذ التحق بحركة فتح في أواخر شهر آب/أغسطس عام 1967، حيث كان ثاني الملتحقين بفتح من حاملي بطاقة الهوية الإسرائيلية، ولم تنقطع هذه العلاقة التي أعتز بها إلى يومنا هذا. وينطبق هذا الوصف على علاقة حميمة تربطني بالصديق يحيى يخلف، الذي وجد من الملائم أن يبدأ إهداء نسخة لي من روايته الأخيرة راكب الريح قبل ثلاثة أسابيع، بكلمات: صديق العمر ورفيق الدرب العزيز والغالي …. نعود لموضوعنا. الصديق المشترك لنا جميعا زياد درويش، وهو قريب شاعرنا الكبير الراحل، يعمل في لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي ، التي يتولى مسؤوليتها المدني، ألقى محاضرة على طلاب معهد بيرل الإسرائيلي قبل أسابيع، شرح فيها موقف الحركة الوطنية الفلسطينية، وعرّى سياسة الحكومات الإسرائيلية، وخاصة الحكومة اليمينية الحالية، الأكثر عنصرية من جميع الحكومات الإسرائيلية السابقة. العديد من الطلاب اليهود الإسرائيليين في ذلك المعهد، سمعوا كلاما من درويش، تحرص القيادات الإسرائيلية اليمينية على حجبه عنهم، بل وتعمل على تحريضهم ضد كل فلسطيني وكل ما هو فلسطيني أيضا، وتشوه كل الحقائق. كانت النتيجة أن عددا من طلاب معهد بيرل بدأ رحلة التضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، أو بعضها على الأقل. وتشاء الصدف أن يتم ذلك في فترة يتعرض فيها محمود درويش وشعره لحملة من عتاة اليمين الإسرائيلي، قد تكون أكثرهم تطرفا وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغف. ووصلت هذه الحملة ضد محمود درويش إحدى ذراها قبل أسبوعين، حيث غادرت الوزيرة ريغف قاعة احتفال توزيع جوائز لأفلام سينمائية احتجاجا ورفضا، عندما بدأ مغني الراب الفلسطيني، حامل بطاقة الهوية الإسرائيلية، تامر نفّار، بأداء أغنية لواحدة من قصائد محمود درويش، وعندما عادت ريغف إلى المنصة لإلقاء كلمتها غادر العديد من الفنانين اليهود الإسرائيليين القاعة احتجاجا، ورافق ذلك صيحات تحقير لريغف ومواقفها وعنصريتها. إثر ذلك طلب طلاب من معهد بيرل إياه، إعلان تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وتقديرهم لمحمود درويش وشعره، وإدانتهم لسياسة حكومتهم اليمينية العنصرية ووزيرة الثقافة فيها، وذلك بطلب زيارة ضريح الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وضريح الزعيم الفلسطيني الرمز ياسر عرفات، في رام الله، التي تحذّر السلطات الإسرائيلية اليهود في إسرائيل من دخولها. هؤلاء الطلاب اليهود الإسرائيليون ليسوا جنود احتلال. هذه زيارة لإعلان التضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، وللإعراب عن تقدير طلاب معهد بيرل للرموز السياسية والثقافية المناضلة الفلسطينية. هي صفعة مدوية لحكومة الاحتلال والاستعمار الإسرائيلية، يجدر بالمثقف الفلسطيني الوطني الواعي أن يتعامل معها بتقدير وتشجيع، لا مهاجمة القائمين على المؤسسة التي تسعى لاختراق الجبهة الإسرائيلية، وقد بدأ هذا السعي يعطي ثماره. ولعل أكبر دليل على ذلك هو أن كان أول قرار اتخذه أحد أكثر الإسرائيليين يمينية وعنصرية، افيغدور ليبرمان، عندما تولى وزارة الدفاع في حكومة نتنياهو قبل أشهر، هو قرار منع المدني من دخول إسرائيل. واجب المثقف الفلسطيني أن يعمل على توعية أبناء شعبه الطيبين بكشف الفروقات بين الإسرائيلي العنصري، والإسرائيلي المعتدل المتضامن مع الشعب الفلسطيني. تقول كلمات إحدى قصائد الشاعر الكبير الحبيب محمود درويش، والتي غنّاها الفنان اللبناني الكبير مارسيل خليفة: بين ريتا وعيني بندقية . هذه ليست قصيدة غزل وتشبُّب بفتاة يهودية إسرائيلية. إنها بيان سياسي للمبدع محمود درويش، بأسلوبه ولغته الجميلة، يقول فيها لليهودية الإسرائيلية ريتا، ولإسرائيل ذاتها: أزيلي بندقية الاحتلال والاستعمار، نجد طريقا توصلنا معا إلى حوار وتسويات وحل وسلام وتعايش. تقول الحكمة العربية: الرجوع عن الخطأ فضيلة. والمدني والمؤسسة التي يديرها جديرة بالتقدير لا التحريض، وجديرة بالتشجيع والتبنّي، لا الهجوم والتبرّؤ. |