|
احمد دوابشة... وجع القلب في خريفٍ حزين
نشر بتاريخ: 22/11/2016 ( آخر تحديث: 22/11/2016 الساعة: 11:16 )
الكاتب: هبة الوعري
ألجمني الصمت أكثر من مرة وتثاقلت الغصاتُ في قلبي وأنا أكتب هذا المقال، وكلما حاولت الاستمرار كانت مشاعري تتلظى ألماً وتتلعثم اللغة على شفتي وتتيه الكلمات ويسقط قلمي وجعاً على ذلك الطفل الصغير الذي رحلت عائلته بأكملها دون أن يهديه أحدهم قبلة الوداع الأخيرة!
أحمد دوابشة... رغم عودته للحياة وتماثله للشفاء واندمال جروحه إلا أن جراحه النفسية باقية لن تندمل على مر السنين! بعد أن أصبح ابن شهيد وابن شهيدة وأخ لشهيد... فقد عاش أحمد رحلة علاج طويلة وهو يرقد على سرير الشفاء وبقي في حالة غيبوبة كاملة لأشهر نتيجة الحروق الخطيرة التي أصيب بها أثر المحرقة التي ارتكبها مستوطنون إسرائيليون حاقدون في قرية دوما قضاء نابلس صيف العام الماضي وخلال فترة مكوثه بالمشفى رحلت عائلته بأكملها وأخذت معها كل الذكريات الجميلة التي عاشوها معه وأصبحت تحت التراب وحتى ذكرياته القليلة مع أخيه الرضع علي ذي العام ونصف. خنجر طعن قلبي عندما رأيت على صفحات المواقع الاخبارية منذ أسابيع ذهاب أحمد إلى قبر والدته وكان يحمل معه عصفور ميت وقام بوضعه على قبر أمه ليوصل سلامه واشتياقه الشديدين لها وطلب من العصفور أن يوصل احتياجه وحبه لأمه في السماء!! يا الله كم هو موقف صعب من طفل صغير. لقد تعمدت عام كامل ألا أكتب هذا المقال رغم بدئي فيه منذ أشهر كوني أعلم مدى الحزن العميق الذي سيعتريني فقد تأثرت جداً بالمحرقة وبما حل بالطفل أحمد بعد أن أصبح يتيماً ولكني أصرَرْتُ أن أكمل كتابتي ورسالتي فقد احتفظت بكل صوره على هاتفي الخاص ابتداءً من أولى مراحل علاجه وحتى شفاءه وسفره وعودته للدراسة وصور ابتسامته, حزنه, فرحه, ألمه, مشاكساته أمام كاميرات الصحافيين وكل الصور التي تخصه، وكلما أغرق في التفكير كيف سيكبر أحمد بدون أب ولا أم ولا إخوة وكيف سيذهب إلى مدرسته من غير أن تصنع له أمه حليب الصباح مع فطيرة خبز وزعتر وتحضنه وتقوله له "الله يرضى عليك يمّا"، ودون أن يذهب معه والده إلى المدرسة في أول يوم دراسي أسوة بباقي زملائه في الفصل؛ وكيف سيفرح بقدوم العيد وحيداً بلا قُبلة والديه ولا ملابس جديدة ولا عيدية تُفرح قلبه منذ الصباح، كنت أفكر دوماً بكل الأسئلة التي سيسألها أحمد عندما يكبر، وكلما تصفحت المواقع الإخبارية أجد أخبار أحمد تتصدر الصفحة الأولى كانت أدمُعي تنساب وحدها على وجنتي حينها كنت أغلق كل شيء من صور وأخبار وفيديوهات؛ كم تألمت لأجله ولازلت، وعلى غفلة ليلٍ خريفه حزين لا أدري كيف ولماذا انطلق قلمي معلناً العنان لنفسه وعادت بيّ الذكريات إلى الوراء وبدأت أسرد تفاصيل هذه المحرقة على قصاصة ورقتي الحزينة فترانيم الوجع الذي عاشه أحمد أوقد في قلبي شعلة غضب قبل أن تبكي عيوني ابتداءً من فقده عائلته وإصابته بحروق شديدة وتماثله للشفاء وإبلاغه بوفاة عائلته وسفره والتحاقه بعامه الدراسي الأول؛ كلها عوامل فجرت بداخلي بركان الغضب تجاه قضيته التي هزت الرأي العام لقسوتها وبشاعة ما أقدم عليه المستوطنون الإسرائيليون. مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يكون أحمد الناجي الوحيد من محرقة عائلة دوابشة والتي تمثلت بإحراق المنزل بالكامل على ساكنيه في منتصف الليل وهم نائمون وبقي أحمد يرقد في المشفى لتلقي العلاج أثر الحروق الخطيرة التي أصيب بها شهور طويلة، وحتى بعد خروجه بقيت الضمادات واللفافات البيضاء تغطي رأسه، فقد نهش وجهه وجسده ورأسه الصغير احمرار وتورمات، كما لا زال يلبس كفة جلد في يده اليمني التي أصيبت بحروق شديدة ولازال أصلع الشعر من الناحية اليمنى لرأسه ومن الخلف، كما أجري له عملية زراعة جلد مؤخراً. وخلال فترة مكوث أحمد بالمشفى ظل دائم العتاب على أسرته وبقي ينادي على والديه وهو تحت تأثير المخدر وكان يردد دوماً: (وين ماما أنا زعلان منها ليش ما اجت تشوفني وتطل عليا وتشوف الواوا اللي براسي، أبوي تأخر روح شوفو يا سيدو روح جيبوا، ليش ماما ما جابتلي أواعي العيد، وينهم كلهم ) كم هي مؤلمة تلك العبارات...... أحمد الذي يبلغ من العمر ست أعوام... طفل أصبحت حياته تحت الأضواء وكل يوم يزداد شهرة ونجومية وباتت قصته قريبة من سيناريو مسلسل حيث أصبح اسمه يتردد كل يوم في الصحف والمجلات المحلية والعربية والدولية إضافة إلى حضوره العديد من المؤتمرات الصحافية، فقد طار أحمد إلى معظم الدول العربية والأجنبية حيث جعله الحزن واستشهاد عائلته وهو في هذا السن بطلاً كبيراً في الصحافة والإعلام وأمام أعين الكاميرات؛ سافر أحمد إلى الأردن وكُرّم هناك وأجرى له استقبال كبير، وسافر إلى مكة المكرمة أدى العمرة ودعا لأهل حلب أمام الكعبة المشرفة كما زار تركيا، ولعل الأحدث الأبرز والأهم هو سفره إلى أسبانيا ولقاءه بفريق نادي ريال مدريد الأسباني والتعرف على اللاعبين وجهاً لوجه وخاصة النجم كريستيانو رونالدو والتقاط صور تذكاريه مع كافة الفريق، كما وكتب جميع اللاعبين على بلوزة أحمد حيث أهدى له الفريق الزي الرسمي للنادي، هذا ونشرت صحيفة الماركا الأسبانية تقريراً عن تلبيه الطفل أحمد دعوة نادي ريال مدريد وصوره في النادي الملكي الأسباني وهو يركل الكره في ملعب سانتياغو برنابيو ومدينة ريال مدريد الرياضية حيث حضر تدريبات الفريق الأول. وبهذه الزيارة التاريخية كما يعتبرها البعض يكون أحمد في نظر الإعلام قد حقق كل أحلامه بلقائه نجم ساطع كرونالدو. وضمن زيارات أحمد فقد ذهب إلى مقر المقاطعة بمدينة رام الله واستقبله الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء وأدى له حرس الرئيس التحية العسكرية ورفع خلالها أحمد شارة النصر بيده للرئيس هذا وأهدوه العديد من الهدايا والألعاب القيّمة. فمع كل هذه الضجة الإعلامية التي دخلت حياة أحمد يكمن الخوف هنا من أن تصبح غداً قصته وآلامه مجرد لوحة معلّقة على الجدران، ورغم كل هذه الفوضى وحتى الكم الهائل من الألعاب والهدايا والملابس التي تلقاها أحمد وحتى المهرجين والوفود الذين زاروه في المشفى إلا أنه سيبقى يشعر بفقدان الأمان فلا أحد يستطيع أن يسد ثغره عن حنان أمه ونصائح والده وأوقات اللعب الشيّقة مع أخيه، وحتى كاميرات الصحفيين الملحة لالتقاط صور له لن تداوي جروح من الصعب أن تغفر هذه الجريمة مهما بقي أحمد حي يرزق على وجه الأرض وستبقى محطات من الصعب طيها من حياته. أذهلتني عينا أحمد التي تحكي عن حيرته خلال مقابلة صحافية أجرتها معه مراسلة قناة الجزيرة عندما كان في المشفى متسائلاً: (هما ليش حرقونا اليهود, وكيف أنا انحرفت وصار وجهي مش حلو، طب وين ماما ليش ما إجت تشوفني أنا كتير اشتقتلها وينها؟) لو يعلم أحمد أن أمه كانت ترقد على سرير الغرفة التي بجانبه قبل أن ترحل روحها إلى بارئها، فقد دخلت في حالة موت سريري لأن درجة حروقها وصلت 98%، كم حَلُم أحمد أن يرى أمه قبل أن ترحل وأن يحضنها وتضمه على صدرها وتُقبله على جبينه، أحمد الذي استيقظ فجأة من نومه لحظة وفاة والدته وصرخ من قاع قلبه صرخة مؤلمة وبكى طويلاً وبحرقة وجميعنا شاهدنا الفيديو عندما بكى بكاء يفطر القلوب حتى جفت دموعه لحظة مفارقة والدته الحياة في الغرفة التي بجانبه وكأنه شعر أن والدته توفيت لحظتها! وتركته وحيداً، كم تمنيت أنا شخصياً أن تبقى أمه حده مدى الحياة تداوي جروحه وتؤنس وحدته بعد استشهاد أخيه وأبيه ولكن كل شيء بمشيئة الله تعالى وإرادته والحمد لله على كل حال. ومن شدة إلحاح أحمد وسؤاله عن أمه وأبيه وأخيه قررت الأخصائية الاجتماعية التي تتابع حالته النفسية أن تخبره باستشهاد عائلته حيث بدأت معه بالتدريج وعلى مراحل كقصة فيلم لا بد أن يكون لها نهاية سواء سعيدة أم حزينة... لكنها كانت قاسية كحد السيف على قلب أحمد وسيدرك ذلك وسيشعر بالفقدان أكثر عندما يكبر.... تردد كثيراً قبل أن يذهب إلى مدرسته في أول يوم من بدء العام الدراسي، كان الخوف واضح على وجهه لكن جده وعمه أصرا أن يذهب إلى مدرسته والتي سميت على اسم أخيه الشهيد (علي دوابشة) كما ورافقاه طيلة الدوام ووافقا على تلبية طلبه بأن يقود أحمد سيارته الالكترونية ويذهب بها إلى المدرسة والتي تعمل على الريموت كنترول فالأهم هو أن يذهب ويكسر حاجز الخوف والحرج من الحروق الموجودة على وجهه وجسده، هذا وحظي أحمد باهتمام ملحوظ من جميع المدرسين والطلاب الذين تمنى كل منهم أن يجلس بجانبه؛ كما أن صفّه جُهّز خصيصاً حتى يلاءم وضعه الصحي من تكييف وستائر وبالونات وألعاب ورسومات جميلة على الحائط، كم تمنى والدا أحمد أن يراه بالصف الأول فهذه المرحلة تعني الكثير للأم والأب بعد الانتقال من الروضة إلى الصف الأول الأساسي خاصة والدته التي تعمل مدرّسة فقد تمنت أن تعلّمه في يوم من الأيام عندما يكبر وحلمت بأن يصبح طبيباً أو مهندساً كما روت إحدى زميلاتها، ولكن بإذن الله سيكمل أحمد مشوار مسيرته التعليمية وستبقى شهادته وسام شرف تُسجل على صفحات التاريخ وعلى جبين كل فلسطيني وعربي رغم تخاذل الكثير مع قضيته. (أربعة عدد أفراد أسرتي أربعة) هكذا أصر أحمد أن يجيب على سؤال موجود على صفحة كتابه الخاص به في مادة اللغة العربية للصف الأول الابتدائي يظهر بالصورة كفة اليد والسؤال كالتالي: (لون أصابع اليد في الصورة حسب عدد أفراد أسرتك)؟ فقد كتب أحمد أربعة ولون أربعة فهو مازال متمسك بأسرته وبالعيش معهم وأن جميع أفراد عائلته مازالوا موجودين على قيد الحياة وعددهم أربعة هكذا كانت ردة فعله عندما أجاب على السؤال!!! حتى بعد أن أخبرته الأخصائية الاجتماعية أن عائلته قد استشهدت بأكملها وبلا عودة! ربما أراد أن يجيب هكذا حتى يشعر أن عائلته حوله أو من الممكن أن تعود يوماً ما في نظره؛ أو لربما تكون إجابته هذه لتُطمئن حيرته وتشفي لهيب وشوق قلبه على أهله وتشعره ببعض من الأمل المفقود! كان الله في عونه، فعندما شاهدت إجابته رغرغت دموع عيني وتحسبنت على كل من أعطى الاحتلال الإسرائيلي الحق في العيش على أرض فلسطين الطاهرة، وعلى كل من صم آذانه وأعمى عيونه أمام المجازر التي ترتكبها اسرائيل يومياً بحق شعبنا الأعزل. عندما يكبر أحمد سيعي أن عائلته رحلت بفعل حاقد صهيوني وسيظل شوكة في حلق الاحتلال الإسرائيلي كونه الناجي الوحيد من هذه المحرقة التي أصبحت قضية رأي عام دولي وعالمي واتضح للجميع مدى التواطؤ الإسرائيلي مع المستوطنين وتهربهم من محاسبتهم على فعلتهم الجبانة في منتصف الليل. وسيؤرخ التاريخ في صفحاته أن أحمد سيبقى يتجرع ألماً ووجعاً لم يكن يعرفه طيلة حياته لأن ألم الفراق والوحدة لم يشعر به إلا من ذاقه! |