وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

أربعون يوماً على الرصيف

نشر بتاريخ: 19/12/2016 ( آخر تحديث: 19/12/2016 الساعة: 10:29 )
أربعون يوماً على الرصيف
الكاتب: بهاء رحال
هذا العنوان الذي في الأعلى هو عنوان كتاب صدر للكاتب الرائع صالح ابو لبن، حيث يؤرخ فيه وقائع اضراب الأسرى الأربعة ابناء مخيم الدهيشة حيث خاضوه في مواجهة سياسات الاعتقال الاداري الذي يفرضه الاحتلال على المعتقلين الفلسطينيين، وقد بلغ صمودهم فيه اربعون يوماً متواصلة امتنع فيه المضربون عن الطعام بينما اعتصم الناس في خيمة الاعتصام التضامنية معهم والتي اقيمت على رصيف مخيم الدهيشة، حيث جاء التضامن مع الأسرى ليشد من عزم المضربين ويقوي صمودهم الذي كان بمعنويات عالية رغم ان الظرف السياسي العام كان يتجه بشكل مغاير عن الطبيعي، نظراً لأحداث حرق عائلة الدوابشة على يد المستوطنين الذين قاموا باشعال النيران في بيتهم في جريمة هزت الوجدان الانساني، حيث راحت اجهزة الاعلام لتغطي تلك الجريمة النكراء التي لم ينجو منها احد غير احمد الصغير، ولكن هذا لا يضعف صلابة المضربين عن الطعام رغم ما بدا عليه المشهد من تغير لحظة ما أصاب عائلة الدوابشة، خاصة في أروقة خيمة الاعتصام على الرصيف التي تؤمها الوفود والشخصيات والفصائل والقادة من مختلف الاحزاب والتنظيمات، تلك الخيمة التي اصبحت عنواناً للقاء الدائم على مدى اربعون يوماً شهدت النقاشات والحوارات والتحليلات والخطابة والبيانات وعصفت بأفكار واجتهادات وتبنت وجهات نظر عديدة واستطاعت ان تحافظ على لونها المحايد، هو لون الوطن الواحد والعلم الواحد، لتؤدي الهدف منها في دعم الحركة الأسيرة وبخاصة الاخوة المضربين عن الطعام، وهذا ما كان وسط تفاعل شعبي محدود، لم يكن بمستوى الموقف العظيم الذي اتخذه الأخوة المضربين عن الطعام، نضال أبو عكر وغسان زواهرة وشادي معالي وبدر الرزة ومنير أبو شرار وبلال الصيفي.
ويصف الكاتب بطريقة ذكية جداً ايام الاضراب، وما يصاحبها من أوجاع جسدية يتعرض لها المضربون عن الطعام، فيعد الآم يوماً فيوماً وهو يعيد للذاكرة الاضرابات الشهيرة في سبعينات وثمانيات القرن الماضي حين كان الكاتب احد اولئك الاسرى الذين خاضوا الاضرابات، فيعطي وصفاً دقيقاً لكل ما يتعرض له المضرب عن الطعام، وكيف يبدأ بالتعب وما هي الاوجاع التي يتعرض لها، وكيف يصبح لا يقوى على الحركة وهو يفقد وزنه بشكل متسارع ويفقد بعض حواسه وتبدأ عمليه صراع البقاء والقدرة على احتمال ومواجهة اجراءات ادارة السجون التي تسعى بكل الوسائل للنيل من عزيمة الاسير، وتفرض التغذية القسرية التي راح ضحيتها عدد من الشهداء، نتيجة التغذية القسرية التي تمر عبر انابيب تزرع في فم او أنف الأسير المضرب عن الطعام ويعطى جرعات من الحليب اجبارية وهذا الاجراء المحرم طبياً ودولياً الذي يؤدي الى فقدان الاسير حياته ويدخل في حالات الموت البطئ، وقد استدل الكاتب على اسماء استشهدت نتيجة لتلك التغذية القسرية التي تقوم بها ادارات السجون، خاصة في سنوات سابقة كان يتعرض الاسير فيها الى غياب تام عن المشهد ولم تكن وسائل الاعلام موجودة بهذا الشكل الذي عليه اليوم.
صالح ابو لبن في كتابه يجيء على نفسه كثيراً فلا يكتب عن معاناته الشخصية في فترات الاعتقال، ويصر على اظهار الأربعين يوماً التي امضاها المعتقلون في اضرابهم، بينما يحاول ان يصف اوجاعهم التي لا تخطر ببال احد غير الذين جربوا الاضراب وعرفوا تماماً ما يحدث للأسير المضرب، وهذا ما حرص الكاتب على وصفه من خلال تصوير المشاهد في لحظة وجد نفسه فيها يعود سنوات الى الوراء، حيث حملته الذاكرة الى زنازين الاعتقال والاضراب، في عسقلان تارة وفي سجون أخرى تارة أخرى وكيف يتنقل الأسير بأوجاعه، وكيف يحاول بكل ما أوتي من عزيمة على تحقيق الانتصار بأمعائه الخاوية على ادارات السجون وأجهزة الأمن التي تحاول من جانبها ممارسة كل اشكال القهر والعزل والتعذيب في محاولة فك الأسير لإضرابه دون أن يحقق مطالبه التي من أجلها شرع بالأضراب.
الكتاب الذي جاء في اطار توثيق ما يتعرض له الأسير خلال أيام اضرابه عن الطعام، ويصف حالات الوجع والألم تماماً كما يصف تجارب الاضراب العديدة التي يحاول فيها الأسرى الحصول على حقوقهم، حيث الاضراب في السجن هو الوسيلة الوحيدة للتمرد والرفض والعصيان في وجه ادارات السجون التي تمعن في سياسات القهر والعزل والانفراد بالأسرى، بينما يحاول الأسرى ان يحققوا مطالبهم التي أصبحت في الآونة الأخيرة تتلخص في وقف سياسة الاعتقال الاداري، هذا النوع من الاعتقالات المخالف لحقوق الانسان ومواثيق هيئة الأمم والقرارات الدولية.
لقد أخذنا الكاتب معه في رحلة الى زمان بعيد، الى ذلك الزمن الذي كانت فيه الحركة الأسيرة كلها موحدة بقراراتها وإضراباتها وعصيانها على الجلاد وقراراته التعسفية، رغم قسوة المعتقل والغياب التام لكل اشكال التضامن الخارجي، إلا ان وحدة الأسرى كانت أقوى بكثير مما هي عليه هذه الأيام، وأن مطالب الأسرى في ذلك الزمان كانت لا تشبه مطالبهم اليوم والتي انحسرت في ظروف الاعتقال الاداري مستشهداً بحالات الاضراب الفردي، والتي لم تتوقف بل هي متواصلة حتى لحظة كتابتي هذه السطور وقد انهيت قراءة كتاب يحكي قصة وجع الفلسطيني بالاعتقال وداخل المعتقلات، هذه القصة التي يعرفها كل بيت فلسطيني، فلا تكاد عائلة إلا وعاشت مرة او مرتين او عشر مرات ظروف اعتقال الأب أو الابن والبنت أو الزوجة.