"جراح الثقافة" ألم الكاتب إبراهيم جوهر فنزف قلبه ودمعت عيناه

لم أجد نفسي يوماً ما مندمجاً بالثقافة والإبداع، بمستوى الاندماج الذي أعيشه هذه الأيام، وأنا أعد وأقدم حلقات برنامج"عاشق من فلسطين" الذي تنتجه وتبثه فضائية معا، ولا أتذكر انني أقوم بهذه المهمة في إطار عمل سوى عندما يهاتفني مدير عام الفضائية الصديق العزيز محمد فرج، ويخبرني بضرورة الذهاب إلى مكتب الفضائية في رام الله لاستلام مكافأتي المالية.

إذ ان انشدادي للغوص في تفاصيل مشهدنا الثقافي والإبداعي بمقوماته وأبعاده، ماضيه وحاضره ومستقبله، يطغي عى كل شيء، ويجعلني مركزاً في اتجاهٍ واحد، أكثفه بعد كل تسجيل في سؤال: - من الضيف القادم وماذا سيضيف إلى ما أباح به الضيوف السابقون؟

ولأنني متصل بالثقافة والإبداع منذ ما يقارب الأربعة قرون، أعرف ضيوفي جيداً، إما من خلال سنوات الاعتقال أو في اتحاد الكُتاب أو نقابة الصحفيين أو نتيجة قراءات ومتابعات لما أنتجوا وأبدعوا، فمعظم الضيوف تشاركت معهم في تجارب شخصية، لكن ضيفي الكاتب إبراهيم جوهر في الحلقة التي ستبث الساعة التاسعة من يوم الجمعة المقبل، فقد كان ضيفاً مختلفاً بالنسبة إليّ، بالرغم من موسمية التواصل الاجتماعي المباشر بيننا، بخاصة في السنوات الأخيرة، فهو في القدس وأنا في رام الله، وبين المدينتين جدران ٌ وممنوعات.

إبراهيم جوهر التحق بجامعة بيت لحم في العام 1976، أي في السنة التي قادتني فيها مجموعة من الأسباب للالتحاق بالجامعة ذاتها. تزاملنا ثم تصادقنا، وأصبحنا نمضي اليوم بأكمله معاً وحتى أن إبراهيم كان يفضل أن يمضي معظم الليالي في البيت الذي استأجرته في بيت ساحور، بمعنى انه، عملياً يشاركني السكن مع أنه نظرياً غير مسجل في عقد الإيجار.

كانت حياتنا مكرسة للثقافة، وبشكل أكثر تحديداً، عبارة عن كتب ونقاشات وأنشطة ثقافية ومسابقات ومحاولات أدبية. كنا ننام ونقوم ونحن نفكر كيف نجعل من مجلس الطلبة منبراً مفتوحاً حافلاً بالثقافة، معجوناً بها، حلُمنا في تلك الفترة بثقافة تقدمية لا حدود ولا حواجز تقف أمامها، وحلمنا بوطن تسوده العدالة والقيّم والمساواة والفرص المتكافئة.

حلمنا بالمنتديات والقاعات والمسارح ودور النشر، وحلُمنا بأجيال مثقفة تتغذى ثقافة وتتنسم إبداعاً، وتتوقد معرفة ً، وتتباهى بأجمل لغة على وجه هذا الكوكب "لغتنا العربية".

وربما هذا الحلم القديم المطرز بالجمال والمتوّج بالإبداع والمزين بشفافية الرومانسية، جعل قلب إبراهيم ينزف في الحلقة التلفزية وعينه تدمع، مقارِناً بين حلم الأمس وواقع اليوم.

تأملت وجهه وهو يجلس قبالتي وطار بي الخيال إلى صورة شاب لم يبلغ العشرين عاماً بعد، بحيويته ونشاطه وحركاته التي لا تتوقف وعينيه الواسعتين الذكيتين وشعره الأسود الكثيف، ثم عدت في الحال من سفرتي الخيالية، فلا مجال لمقدم برنامج تلفزي أن يسلم لشطحات خيالية طويلة، وأن يغيب في الماضي، لأن المطلوب أن يظل حاضراً مسلحاً بأسئلته وتعليقاته، وإذا بي وكأنني اكتشف إبراهيم الكهل يجلس قُبالتي، متسامياً على المرض. لقد زحفت إليه الشيخوخة مبكراً، بعد أن صمد طويلاً أمام برامج علاجية لا تنتهي، ذهب الشعر الأسود الكثيف، وسيطر حزن غامضٌ على عينيه بيد أن الذي بقي نبرة وجرس صوت ٍ هو ذاته، بوضوحه وصرامته وصدقه وثقته.

الصوت الذي استمعت إليه في "البرنامج" هو صوت إبراهيم ابن العشرين المسكون بالثقافة وشغف المعرفة وحرارة الانتماء.

كان شكل إبراهيم ليس ذلك الشكل الذي عرفته في سبعينيات القرن الماضي، أما الصوت فقد حافظ على كل مقوماته وألقه وتميزه.

فأيهما كان الأصدق بالنسبة إليّ الشكل المتغير أم الصوت المتشبث بصوته؟!
تلقائياً أمسكت بالصوت، أمسكت بإبراهيم القديم المتجدد في المواقف واللغة ودلالاتها. أمسكت بصديق بل أمسكت بحقيقةٍ تمنيت أن أظل ممسكاً بها.

انتهى تسجيل حلقة "عاشق من فلسطين" عدت إلى البيت، لكنني عشت ليلتي قلقاً مهموما ًموجوعاً بوجع إبراهيم - وجعي، وتساءلت: هل ذهبت سنوات السبعينيات هدراً؟ هل كان حلمنا مجرد حلم رومانسي طوّي مع الشباب؟!
هل راح جيلنا ضحية مراحل خشنة قاسية مريرة داست كل شيء بحوافرها الوحشية؟ هل انكسر الحُلم؟
لم أنم إلا حينما استحوذت عليَّ نتيجة مفادها، أن الحلم لم ينكسر. صحيح أنه يتوجع، ينزف، يعاني، إلا انه لم ينكسر...والدليل أن إبراهيم لا زال يكتب بمداد أعصابه وقوة تحمله، يتقوى على الألم بالقلم، ينتصر على المرض، بأمل الغد، حيث عاش سنوات المرض يكتب ويتابع وينتقد، وها هو قد صرخ في حلقة "عاشق من فلسطين" صرخة استغاثة ثقافية، فوجد قلمه وأقلاماً أخرى، تمط السنتها لكابوس الإحباط، ويقرر أن الزمن الافتراضي للكابوس سينتهي وإن بعد حين.