|
جورج حبش في مداره المنيف...
نشر بتاريخ: 29/01/2017 ( آخر تحديث: 29/01/2017 الساعة: 15:55 )
الكاتب: د. محمد نعيم فرحات
قلما اجتمعت الصدقية وصفاء المرجعية الأخلاقية ونصاعتها، والرهافة والحساسية في رجل كان مشغولا بالسياسة، وينتمي لتاريخ معقد وصعب، مثلما اجتمعت هذه القوى في شخص جورج حبش وسلوكه.
وعندما يتعلق الأمر بجورج حبش نقف إزاء حشد من الدلالات التي قامت من صميم عذابات شعب "لا تطاق" ،ومن رهانات تعودت على أن تعيد إنتاج نفسها من وسط الإنكسار والخيبة والخذلان. في صلب هذه الأوضاع وأحداثها وتداعياتها وحراكها صعودا ونزولا، كان جورج حبش مسكوناً بقيمة جوهرية ظلت تلازمه لما بعد مثواه الأخير، هي أصالة الرؤية وصدقيتها، أصالة وصدقية أفصحت عن نفسها في كل الظروف والأحوال، حتى عندما كان جورج حبش ينتهج خيارا سياسيا أو إيديولوجيا غير مناسب ، وهنا لا تصبح الصدقية أرفع الخصال وأعلاها فقط، لأن حبش ارتفع بها وحولها لأيقونة في حياته. وعندما ضاقت المقاربة الفلسطينية بنفسها وبقدرتها، على بلورة رؤية مناسبة للمشاكل والحلول، وتاهت هنا أو هناك، وتكسرت خطواتها في الطرقات الصعبة، غادر جورج حبش بؤس المدار الفلسطيني، ولكن ليس إلى اللامبالاة أو الإستقالة من الدور أو نحو راحة ما- كانت متاحة بكل حال- بل غادر إلى قواعده الأولى ، ووضع رهانه هناك في إطاره الطبيعي والتاريخي والقدري معا، محور الرهان على عروبة أصيلة بنسقيها الإسلام الأصيل والمسيحية الشرقية الأصيلة. وعلى مدار العقدين الأخيرين كان جورج حبش المنسحب من صخب المسرح الفلسطيني الذي بات يضيق بنفسه ويتحول إلى ضائقة شاملة، صاحب حضور كبير وهادئ ومتأمل وأمل هناك، حيث تخوم العروبة الثقافية الفسيحة والباقية والمتجددة. ثمة رجال يستحقون من الحياة أكثر مما نالوا، بيد أن للأقدار ترتيباتها التي قد تتفاوت مع أقدار الرجال واختياراتهم ورهاناتهم، وفي اللعبة المستحيلة تأخذ الأقدار العالية، الرجال الحقيقيين دائما، في لحظة يكون واقع الحال بحاجة ماسة لحضورهم، وهكذا كان الأمر مع جورج حبش . جورج حبش الذي كان (حتى) المرض في تجربته إحدى أشكال انفعالات الوعي والجسد العضوي مع اختياراته الوجدانية والسياسية والفكرية ، لذلك أخذ المرض عنده شكل جرح بليغ في معركة الانفعال، أكثر مما أخذ معناه كتوتر أو كخلل بنيوي في بيولوجيا الجسد. إن انفعال الوعي هو الذي أحدث المرض عند جورج حبش، فعبر عن نفسه في خارطة الجسد، ورغم أن المرض قد مس القدرة الحركية للرجل على نحو ما، إلا أن إرادته وعزيمته تفاقمت بالمرض فأصبحت أكثر وامضي، وواصلت توقدها كما يليق بجورج حبش، الذي كان يعبر عن نفسه بحماسة وانفعال هائلين ، صارا بعد جرح المرض بسالة، يمكن الوقوف عليها في ملامح وجهه ونظرته وحركته وأعماق الموقف والاختيارات التي تبناها. كما أن هناك رجال يصعب تعويضهم، بيد أن معناهم وما تركوه من دلالات وصور ورمزيات في الذاكرة والوجدان يجعلهم حاضرين على الدوام، وهنا يمكن العثور في نحو بالغ اللياقة وملئ بالأريج على قوة النفس والمعنى للرجال الحقيقيين، وهؤلاء هم القليلون السعداء الذين يجعلون من الذاكرة المنيفة موطنا للبحث عنهم، لقد عاد جورج حبش إلى نفسه من حقل السياسة والتباساتها ، راضيا على نحو كاف، ، وذهب إلى مثواه الأخير متجنبا بعناد هائل، الرداءة وأيا من شقيقاتها بالرضاعة، أو مرادفاتها الماكرة. وفي هذا الصدد، لا يعود من المهم التساؤل عما إذا كانت طموحات وأحلام جورج حبش وجيلة لم تحقق في حدود حياتهم، طالما أن تحقيق بعضها يفوق قدرة أجيال متعاقبة، وطالما كان الأهم، هو أن تطمح وتحلم وتراهن وتعمل من أجل ذلك، في مجال تاريخي طاحن وصعب وشرس، يحاول قتل، حتى الخيالات في رؤوس المتخيلين والحالمين بالانعتاق. إن هذا الخيار يندرج في سياق الجهاد الرفيع، وأما أعلى الصابرين من الرجال فهم أولئك الذين صانوا حلمهم ورهاناتهم في مجابهة واقع أحكم الدوائر فوق رؤوس المظلومين. وأن يتعثر رهان طموح في الإنعتاق أو مشروع تاريخي ما، فهذا من معهودات الواقع والتاريخ، ولكن أن تنكسر الفكرة والقناعة والرؤية والروح والموقف، فلا يعود هنا من إمكانية لوجود فاعلية أو مشروع أو مقاربة للتاريخ وتعديله ، وعندها يتاح للبؤس وللعجز وللإحباط بيئة مناسبة كي تفصح عن نفسها وتحتل المشهد. وإذا كانت مقاربات جورج حبش وأقرانه قد تعثرت وتكسرت، إلا أن روحه لم تنكسر، وإن كانت أنهكت، وعندما جاء آخرين تجاوزوا انكسار قدرة الفلسطينيين ووعيهم ،وجدنا جورج حبش هناك، دون يبدل راياته أو ينفصل عنها. فيما يشبه انتقاما قدريا، يحدث في هزيع ممض يتجرعه الفلسطينيون، ها أن الموت يطوي كبارهم واحدا تلو الآخر، ويودعهم الثرى وسط تفاقم مأساتهم ومعاناتهم وانكسار ما، في الروح والوعي يجري عندهم. فيما ينفتح عذابهم على أفاق شاسعة تتحالف فيها الظروف الموضوعية المتكالبة عليهم مع دور داخلي نشط يساهم في تصعيد المأزق الوجودي الذي يعيشون في كنفه ، ويأكل من روحهم ووعيهم ومعناهم وإمكانياتهم. في هذه اللحظة الحرجة بالذات، ذهب جورج حبش إلى الحياة الأخرى بعد أن خذلناه، لأنه مضى متألما مما نفعله بأنفسنا ، ولأن مصدر تفاؤله فينا يمضي في طريق صعب، بينما يبدو تفاؤله أيسر عند آخرين غيرنا!!؟؟ جورج حبش الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في لحظة حرجة من تاريخ شعبه بعهدة الثرى منذ زمن يتطاول. بيد أن أمرا مهما حمله جورج حبش من ضمن مقتنياته الثمينة، كي يذكرنا به من هناك، هو اعتقاده الراسخ بالرهان على غد مختلف عن الأمس واليوم والعمل من أجل ذلك. قليلون هم الذين يذهبون إلى نهاياتهم دون أن يهنوا، وهم يحملون راياتهم حتى الرمق الأخير، رغم عسف الدروب وتحولاتها، فطوبى لرايات وجدت مستقرها على شواهد قبور حامليها، لا أقل. |