|
علّمونا كذباً!
نشر بتاريخ: 22/02/2017 ( آخر تحديث: 22/02/2017 الساعة: 16:06 )
الكاتب: فاطمة البشر
حين أتممتُ السنوات الستّ الأولى من عمري، تشوّقتُ لأحمل حقيبةً على ظهري، أركضُ بها إلى المدرسة، وأتصفّح كتباً بصورٍ ملوّنة، وأستمع إلى حديث معلّمةٍ تُبهر الأطفالَ بعمقِ معرفتها.
في المدرسة علّمونا ألّا نشتري من بائع الحلوى الذي يبيع على حافة الطريق، لأنه يبيع حلوى مكشوفة. وفي صورةٍ -لا تبرحُ ذاكرتي- احتواها الكتاب المدرسيّ؛ لرجلٍ يبيع حلوى كشفها الرّسّام، ورَسَمَ ذباباً يحوم حوله، أكّدوا لنا أنّ هذا البائع يسبب الأمراض، لذا كنتُ أخشى أنْ أمرّ بجانب بائعي الحلوى ! مضتِ السنون، ولمْ أرَ ذباباً يحوم حول بائع حلوى يبيع على قارعة الطريق! وتساءلتُ لماذا لمْ يعلّمونا أنْ نقدّم نصيحةً للبائعِ بتغطيةِ الحلوى، حتى نشتري منه في اليوم التالي! الآن؛ عندما أصادف بائع حلوى، أودّ لوْ أقدّم له اعتذراي، أوْ أنْ أطبَع -بصمتٍ- قُبلةً على جبينه المتصبّب عرقاً، في سبيل إعالة أسرته. في المدرسة قالوا: "إنْ تسرّبت منَ المدرسة سينتهي بك المطاف على الرصيف، تبيع بضاعة رديئة، تلاحقك الشرطة، وينفر منك النّاس". لذلك لمْ أكنْ أحبّ هؤلاء الباعة الذين تصدح أصواتهم في شوارع المدينة. لكنْ ما الضير لو أخبرونا أنّ هؤلاء تركوا المدرسة بقهرٍ، ضحّوا بمستقبلهم لأجل أنْ يُكمل إخوتهم تعليمهم، ومازالتْ الدموع تترقرق في عيونهم كلما رأوْا طالباً يضمّ كتبه إلى صدره. وصرتُ إذا ما رأيت بائعاً متجولاً أتبسّمُ لتبسّمِهِ، وأنهلُ شيئاً من عزيمته وإصراره، أسرقُ من عينيه قليلاً منْ تمسكه بالحياة رغم تحدياتها. وفي درس "حلمك في المستقبل" أو ربما كان اسمه "اختر مهنتك"، احتوتْ صفحات الدرس على صورة طبيب، مهندس، محامٍ، معلم. ولكنهم نسوا -أوْ تناسَوْا- أنْ يخبرونا أنّ المهندس لا يكونُ مهندساً ناجحاً دون عامل بناءٍ ماهر، ودهّان فنّان، وكهربائيّ محترف. كما أنني لا أتذكر أنّهم قالوا في درس الأعياد والعطل الرسمية، أنّ هؤلاء يتصببون عرقاً في أماكن عملهم، بينما نحن نائمون في الأول من أيّار! ومازلتُ حتى الآن عندما أرى مبنى جميلاً، أقول كم كان عمّال البناء رائعين، كم تعبوا، وكم قاسُوا! وتقبّله من الإعجابِ عينايَ. وفي درس الرفق بالحيوان، وبينما كنّا نصفق للسيرك بقلوبٍ لاهفة، وظنُّنا أنّ جعل الحيوانِ يرقصُ ويقفِز رفقاً، لم يخبرونا أنّ هذه الحيوانات تُترك أياماً بالجوع، وتعاني شتى صنوف العذابِ، وأنّ المدربَ الذي حلمنا يوماً ما أنْ نكون مثله، يفعل أيّ شيء بذلك الحيوان فقط ليحظى بدراهم معدودة، وتصفيق حارّ في نهاية العرض! لمْ أعد أحبّ عروض السيرك، وأصدرتُ حكماً غيابياً على كل مدربي السيرك أنْ يذوقوا منْ معاناة تلك الحيوانات. أنهيتُ الاثنتي عشرة سنة في المدرسة، ظنّاً منّي أنّي خبرتُ الحياة، ووضعتُ كل شيء في جعبتي، فمضيتُ في الدّروب، وعند أول مفترق طريق ضعتُ بين غبار السّبل ورائحة الكتب، ثم ما لبثتْ أنِ اختفت رائحةُ الكتب إلى الأبد ... |