|
أمام المرآة
نشر بتاريخ: 28/02/2017 ( آخر تحديث: 28/02/2017 الساعة: 17:00 )
الكاتب: المتوكل طه
كنتُ على الزِّئبقِ صورةَ رجلٍ ، يتَزَيّا بالعينينِ الثاقِبَتينِ .. ولم أرَ نَفْسي ! لا أعلمُ ! لكنّي مثل هواءٍ يدخلُ في كلِّ الغُرفِ ، وبين الأشجارِ ، وأبحثُ عن صورةِ شخصٍ ضاعَ قديماً منّي . وبحثتُ لعلّي ألقاهُ هنا ، أو بين الغيمِ ، وفوقَ البَرْقِ ، وتحتَ البحرِ ، وفي النّرجسةِ الذهبيّةِ ، ثمّ سمعتُ نداءَ النّايِ يهبُّ إليَّ ، فَغَنّيتُ، ليعرفَ أنّي المقصودُ .. ولمّا رُحتُ أَخبُّ إليهِ .. سمعتُ بكاءَ الأغصانِ العاريةِ ، فكانَ الصمتُ على السطحِ المصقولِ ، وما مِن وَجْهٍ في المرآة ! وحتى الساعة لم أرَ أحداً !! لكنّي أحسَسْتُ بأنّ الفضةَ تهْجِسُ ، خلفَ السّطحِ ، بشئٍ يتراءى مثل الشَبَحِ ، وينبضُ مثل الحُلُمِ ، فتابعتُ معالِمَهُ ، فانغلقَ المشْهَدُ عن لا شئ ! فقلتُ ؛ لعلّي ، بأصابعِ قلبي ألمسُ ما يتقافزُ مثل الماءِ ، على هذي المفرودةِ للحُسْنِ ، فما كان سوى العَدَمِ الأبيضَ في المرآة ! ونظرتُ إليها ثانيةً ، فرأيتُ قوافلَ نهرٍ تحملُ هودَجَها المسْحورَ، على أرضِ الأوهامِ ، وثمةَ عوسَجةٌ تتغذّى في الظلِّ ، وفرسانٌ يبكونَ ، وسيفٌ من حَجرٍ مَشْحوذٍ مُلقىً في الرّملِ ، وبعضُ غلالاتٍ في الريحِ ، وكان الناسُ يسيرون على وَقْعِ الحادي المَخفيِّ وراءَ النوقِ .. فقلتُ ؛ لعلّي أتَوَهّمُ !؟ لكنَّ الرَجْعَ الرمليَّ يدفُّ بأُذْني ، مثل هواءِ الرّيشِ على النَسَمات . وحدَّقتُ مليّاً ؛ فرأيتُ قِباباً من وَجَعٍ يسحقُها الرّعدُ الوثنيُّ ، فيصعدُ طفلٌ فوقَ الأسوارِ ، ويرمي نجمتَهُ الناريّةَ أو ساحلَ بلدتهِ .. فتثورُ الرَقَصاتُ الوحشيّةُ في الرّايات . وبعيداً عن ذلك ؛ كان الليلُ المالحُ يبتلعُ اللاجئَ والقارِبَ في خوفِ المنفى .. فَتُنادي الشامُ على أبناءِ النّارنْجِ ، ولا يسمعها أحدٌ !! فالعَالَمُ يتَسلّى بالألعابِ الناريّةِ ، فتضيءُ شواطئَ مَن ماتوا غَرَقاً .. ونرى طفلاً ينكفئُ على الزّبَدِ ، تَكلَّسَ من ثلجِ الماءِ ، وغارَتْ أُسْرَتُه في بطْنِ الحوتِ .. فَيَا سُكَّرَ هذا الجَزْرِ القاتلِ ! ضِقْنا بالنَّحْلِ ، فَخُذْنا لِمَجَرّاتِ الزَّهْرِ على البَتَلات . وعلى ضِفّةِ دِجلةَ ، كانتْ زوبعةُ التفجيرِ تُوَزِّعُ في الأركانِ شظايا الأُخوةِ ، مَن رفعوا السّعفَ النخليّةَ فوقَ شواهِدهِم ، سلفاً ، إذْ لَجّوا في التأويلِ الدمويِّ ، فصاروا القاتلَ والمقتولَ وتابوتَ الويلات. وقلتُ ؛ ساكشفُ هذا الغَبَشَ الناعمَ ، وأرى ما يَكْمنُ خلفَ المرآةِ ، فأمْعنْتُ بعيداً في الهوِّ المَجلِيِّ .. فما كان سوى النّملِ ، يدورُ وئيداً ، ويغطّي كلَّ الطرقات .. وأحسسْتُ بأنَّ دبيبَ الخطواتِ يخرُّ لهيباً في الشريانِ ، وغَذَّ سريعاً في الأوصالِ .. توَهَّجَ ! فاحْمَرَّ السطحُ ، من الكَرَزِ النابعِ ، مِن خلفِ المرآةِ على المرآة . تلوَّنَ وَجْهُ الواقفةِ أمامي ، فتدَفَّقَ جفني بَدمٍ ، مثل الجرحِ السّاخنِ ، فمَسحتُ بكَفّي خيطَ السّائلِ منّي ، وَذُعِرتُ ، لأنّ اللهبَ المطحونَ بصدري ، سالَ بكلِّ لزوجَتِه الفوّارةِ ، فوقَ خدودي ، فاتّشَحَتْ مرآةُ النّاظِرِ بالعَبَرات . وقُدّام المرآة : ترى مَن غابوا عنكَ، ولا تلحظ غيرَ فراغٍ فيكَ ، وتعرف أنّكَ لستَ الممشوقَ المُبتَسمَ أو المُكتَئِبَ، فثمةَ ما يتناسَخُ منكَ ؛ طيوراً وظِلالاً وكُهوفاً سادِرةً في العتمةِ ، منذُ ملايين السنوات . وإنْ أدركتَ ملامِحَكَ البشريةَ ، وعلمتَ بأنّكَ أنتَ المطبوعُ على الصفحةِ ، فاعلمْ أنَّكَ غيرُكُ .. في هذي القَسَمات ! فأنتَ غريبٌ حتى عن ذاتِكَ ، فهل ستُعيدُ المرآةُ إليكَ الضائعَ منكَ ؟ سؤالٌ يتوتّرُ مثل المِثْقابِ برأسِكَ ، لكنَّ إجابَتَهُ المُمْكِنَةَ .. بلا كلمات . وأمْعنْتُ النَّظَرَ ، فطالعني الرجلُ ! فَصِحْتُ ، ليسمعني .. لكنّي حين صرختُ ارتَجفَ ، وكَشَّرَ في وجهي .. وأجاب : لماذا تصرخُ يا هذا ؟ مَن أنتَ ؟ وماذا تبغي منّي ؟ قلتُ : .. فقاطَعَني بيديهِ الغاضِبتينِ .. اسمعني !! فأشاحَ وَرَدَّ عباءَتَه الشقراءَ على كتفيهِ .. وغاب .. وغامَتْ في صوتي الكلمات . وبَحْلقْتُ عميقاً في المرآةِ ، فما كان سواي هناك !! وقلتُ لنفسي ؛ اهدَأ ! هذا أنتَ ؛ ملامِحُ بركانٍ في هيئةِ رَجُلٍ ، أو طوفانٌ نُوحيٌ يتعاظَمُ فوقَ جبالِ الموجِ ، وغاباتٌ من بَلحٍ نبويٍّ ، وغَزالٌ يلهَثُ فوقَ النَّصْلِ ، وعُشبٌ يلتفُّ على سِيقانِ الشمسِ ، وشَهْدٌ مِن فَرْوِ الوَشَقِ البَرّيِّ ، ودَفْقةُ منديلِ المذبوحِ ، وزَفَّةُ شِنّارِ التلّات . ونظرتُ إليها ثانيةً .. فطالَعَني الرّجلُ ، وقال : أتعرفني ؟! قلتُ : بلا ، وجْهُكَ مرآةُ المرآة . |