|
41 سنة على يوم الأرض: تماسك الفقراء
نشر بتاريخ: 04/04/2017 ( آخر تحديث: 04/04/2017 الساعة: 10:12 )
الكاتب: بسام الكعبي
شيعت مدينة اللد بالدموع الخميس الماضي، في السنوية الحادية والأربعين ليوم الأرض، جثمان طالب الطب محمد يوسف جبريل (24 سنة) إلى مثواه الأخير، في وقت ألغت به قرية كفر كنا (الجليل) مسيرتها الشعبية بسنوية يوم الأرض؛ للمشاركة في تشييع جثمان طالب الطب أحمد عزمي دهامشة (22 سنة) وقد استقر بجوار شهيد الأرض محسن طه (15 سنة).
إحدى وأربعون سنة بَرقَت في طيف الحلم بين شهداء الأرض وشهيدي الطب الانساني محمد وأحمد، وقد ذهب الصديقان ضحية حادث طرق مأساوي في العاصمة الرومانية بوخارست..كيف يشعل فقراء شعب فلسطين النار بأحزانهم في يوم الأرض؟ لعل أحلام القديسين تتماسك بمواجهة الكولونيالية والاحتلال والاستيطان والتطهير العرقي والاستغلال؟ كيف حَفرَ شعب التضحيات مسيرته الكفاحية منذ مائة عام، وتمكن من تسجيل يوم الأرض نجمة تبرق في طريق خلاصه المنتظر، في وقت يواصل فيه فقراء الشعب حمل صليبهم من أجل انتزاع الانتصار وتحقيق حلم العودة؟ عصر الخميس الماضي، في الثلاثين من آذار، نظمت بلدة دير حنا (الجليل) مهرجاناً شعبياً مركزياً بمشاركة حشود كبيرة من سخنين وعرابة (الجليل) في سياق تظاهرات شعبية واسعة ينظمها فلسطينيو الداخل بمناسبة يوم الأرض الخالد. حرص المشاركون بالمسيرات على زيارة النصب التذكاري، ووضع أكاليل الزهور على الشواهد العالية لأضرحة الشهداء: خير ياسين، خضر خلايلة، خديجة شواهنة، رجا أبو ريا، محسن طه ورأفت الزهيري الذين سجلوا بدمهم الطاهر وثيقة يوم الأرض الخالد. خطط تهويد الجليل! قدم يسرائيل كينيغ متصرف لواء الشمال في إسرائيل وثيقة سرية، تم تسريبها في الصحافة العبرية يوم 7 أيلول 1976، حذر فيها من "خطورة" تزايد نسبة العرب في الجليل، وطالب بتهويده زاعماً أن العرب سيجتازون عتبة نصف سكان الجليل سنة 1978 ما يشكل خطراً ديموغرافياً على إسرائيل! واقترح توسيع رقعة مصادرة الأراضي، ومنع البناء غير المرخص، وزيادة وتيرة هدم المنازل بحجة عدم الترخيص! أواخر تشرين ثاني 1974 حدّث خبراء إسرائيليون خطة قديمة بغرض "تطوير الجليل" وزيادة عدد المستوطنين. توزعت الخطة على مرحلتين: الأولى تنتهي سنة 1980 والثانية تمتد عقداً حتى سنة 1990 بهدف ابتلاع مزيد من الأرض بغرض "التطوير" الذي ينطوي سراً على تهويد الجليل. مع الاعلان عن خطة تهويد الجليل؛ بادر ناشطون فلسطينيون في حيفا إلى عقد لقاء تشاوري أواخر أيار 1975 وعقد اجتماع ثانٍ بعد شهرين في نهاية تموز، وتقرر الاعلان عن تشكيل لجنة دفاع عن الأراضي العربية. عقدت اللجنة اجتماعاً ثالثاً في مدينة الناصرة منتصف آب 1975 وطالبت بوقف مصادرة الأراضي الخاصة بالمواطنين وقد بلغت نحو مليون دونم في الجليل والمثلث منذ النكبة سنة 1948. هددت اللجنة بالاضراب العام والتظاهر إذا لم تتراجع سلطات الاحتلال عن خططها. ناور ضباط الشرطة الإسرائيلية، وعرضوا تقسيم الأراضي المهددة بالمصادرة إلى قسمين: الأول يتابع فيه الفلاحون زراعة حقولهم بموجب تصريح إسرائيلي مسبق! والثاني يقتصر على التدريب العسكري! لكن السلطات لم تلتزم بعرضها، وسلمت يوم 12 شباط 1976 رؤساء المجالس المحلية في سخنين وعرابة ودير حنا أوامر عسكرية بحظر دخول المواطنين العرب إلى أراضي (المل) وهي حقول خاصة بموجب وثائق رسمية، وتبلغ مساحة أرض المل 1600 دونم، وتقع في المنطقة العسكرية التاسعة بمساحة إجمالية تقدر بنحو 100 ألف دونم، كانت تستخدم منطقة للتدريبات العسكرية في حقبة الاحتلال البريطاني لفلسطين (1917- 1948). عقد أهالي سخنين منتصف شباط 1976 مؤتمراً شعبياً، وأقر إعلان الاضراب العام في جميع المناطق العربية، ورد شموئيل طوليدانو مستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية للشؤون العربية بعد أسبوع على مؤتمر سخنين بنوايا حكومة اسحق رابين مصادرة أجزاء كبيرة من أراضي المواطنين! وصادقت حكومة حزب العمل بزعامة رابين يوم 29 شباط 1976 على مصادرة 21 ألف دونم من أراضي المواطنين في الجليل. دعت لجنة الدفاع عن الأراضي إلى اجتماع موسع في الناصرة يوم 6 آذار وقررت إعلان الاضراب العام في الثلاثين من آذار، وقررت السلطات الإسرائيلية فرض حظر التجول عشية الاضراب العام مستهدفة القرى العربية في الجليل. (للمزيد أنظر نبيه بشير، يوم الأرض ما بين القومي والمدني: سيرورة تحول. الطبعة الثانية، مدى الكرمل/ حيفا 2016). تظاهر أهالي دير حنا مساء 29 آذار احتجاجاً على حظر التجول؛ فتعرض المتظاهرون للقمع. ساند أهالي عرابة المتظاهرين في دير حنا وتعرض الشبان لاطلاق الرصاص فاستشهد الشاب خير ياسين. انتشرت التظاهرات في الجليل والمثلث والنقب فأستشهد في سخنين: خضر خلايلة، خديجة شواهنة ورجا أبو ريا، والفتى محسن طه في كفر كنا، وارتقى في بلدة الطيبة (المثلث) الشاب رأفت زهيري من مخيم نورشمس بجوار مدينة طولكرم (الضفة الغربية). غياب طاهرة قبل رحيل والدة الشهيد رأفت الزهيري أواخر شباط 2016، زرتُ في يوم الأرض سنة 2008 بيت الحاجة خيرية عارف الزهيري (أم حسن) في مخيم نورشمس، واستمعتُ لحاجة طاهرة لاجئة من بلدة قنير المدمرة جنوب حيفا؛ تروي وقائع استشهاد نجلها رأفت صباح 30 آذار 1976 ليسجل مع خمسة من رفاقه الشهداء يوماً خالداً في تاريخ شعب فلسطين ومسيرة كفاحه: "فرض الاحتلال منذ الفجر حظر التجول على المخيم، لكن رأفت استطاع الصعود إلى باصات العمال والوصول إلى أقربائنا في بلدة الطيبة، وقد واجه قدره على أرضها الطاهرة، وخطفه رصاص الاحتلال مرة واحدة وإلى الأبد". أستعيدُ في هذه اللحظة طيف مؤمنة بدت متماسكة فوق سرير الشفاء، صبورة في ثيابها البيضاء، تردد أدعية السماء على حبات مسبحة من نوى الزيتون، وقد أشرق وجهها بالإيمان على وقع تفاصيل حكاية ثلاثة من أبنائها الشهداء: فَقدَتْ عقب الشهيد رأفت نجلها الشهيد فيصل على أرض لبنان دفاعاً عن المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، فيما اختفى نجلها حسام عقب مواجهات مسلحة مع جيش الاحتلال في مدينة طولكرم. أنهى فيصل دراسته الثانوية والتحق في جامعات اليونان لدراسة الطب، ثم انتقل للدفاع عن المقاومة والحركة الوطنية في لبنان، وأصيب بمواجهات تل الزعتر (شرقي بيروت) أثناء حصار المخيم في صيف 1976 بسلاح مليشيا الكتائب الانعزالية والقوات السورية. استشهد فيصل بعد أربعة أشهر على إصابته البالغة، ودفن في مقبرة شهداء بيروت، وتمكنت والدته بعد سنوات على غيابه من عناق شاهدة قبر الشهيد في العاصمة اللبنانية. فقدتْ الحاجة خيرية نجلها حسام مطلع انتفاضة القدس أواخر أيلول 2000 عندما استشهد الدكتور ثابت ثابت أمين سر حركة فتح في طولكرم برصاص قوات الاحتلال، ومنذ ذلك اليوم اختفى حسام في ظروف غامضة، ولا تعرف عنه شيئاً. فَقدَتْ أيضاً ثلاثة من أبناء شقيقها خليل عارف: إبراهيم وحسين اللذان استشهدا في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحسن الذي استشهد عام 2003 تحت بصرها وأمام بيتها في مخيم نورشمس. أستعيدُ بحزن الآن دموع الحاجة أم حسن التي مسحتها بكبرياء بطرف وشاحها الأبيض، ثم تركت لبصرها فرصة التأمل في صور كوكبة من الشهداء تعلو جدار بيتها البسيط والمتواضع في بناء قديم لسجن بريطاني، وقد تلاصقت صور الشهداء بجوار لوحة فنية للتشكيلي سليمان منصور، وضع فيها لمسات ريشته فوق قصيدة شعرية؛ تسلمتها الحاجة أم حسن سنة 1977 كدرع تقديري في السنوية الثانية لاستشهاد نجلها رأفت. غابت الحاجة خيرية منذ عام مضى، ونَفّذَ الأبناء والأحفاد وصيتها بدفنها بجوار فلذة كبدها رأفت لعلها تحتضنه بعد أربعين عاماً على استشهاده صبيحة يوم خالد سيظل محفوراً إلى الأبد في ذاكرة شعب ووطن. |