|
عاصي الحلاني والأسرى
نشر بتاريخ: 23/04/2017 ( آخر تحديث: 23/04/2017 الساعة: 15:25 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
علاقة الفن العربي بالقضية الفلسطينية تضرب جذورها بعيداً وعميقاً، فقد غنى فنانون كبار لفلسطين وكتب عنها وحولها شعراء وروائيون ومسرحيون وأنتج فنانون تشكيليون مئات اللوحات معبرين عن انشدادهم لقضية شكلت للعرب كافة القضية الأولى.
ففي مصر تفاعل فنانونها مع فلسطين منذ أربعينيات القرن الماضي بأعمال إبداعية عمرت طويلاً وما زال صداها يتردد حتى الآن، وفي فترة الخمسينيات والستينيات وصلت الأغنية العروبية التضامنية في مصر أوجها، من خلال أغنيات عبدالوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش، وفايده كامل وفي لبنان تصدرت فيروز الصفوف بما غنت للقدس، وكذلك الحال بالنسبة إلى وديع الصافي الذي كان قومياً بامتياز، بيد أن السبعينات والثمانينات من القرن الماضي شهدت سطوعاً للفنان مارسيل خليفة، بخاصة فيما لحن وغنى للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وفي الأردن وسوريا والعراق والمغرب والجزائر ودول الخليج، تبوأت القضية الفلسطينية مكانة مرموقة في الأعمال التلفزيونية والإذاعية والمسرحية وفي الغناء أيضاً، في تأكيد مستمر أن الوجدان الإبداعي العربي حافل ومتحفز لمزيد من النتاجات الإبداعية المميزة. لذلك فإن أغنية عاصي الحلاني حول الأسرى التي انتجت وسجلت مؤخراً، وبدأت ترددها الإذاعات والمحطات التلفزية الفلسطينية، تأتي من سياق متصل وتراكمي لحركة فنية إبداعية تضامنية عربية، لها دلالاتها القومية والإنسانية، في إطار التفاعل مع القضية في عديد أبعادها وتفرعاتها وتجسيداتها، الأمر الذي يقودنا إلى طرح موضوع مهم حول الفن ورسالته، حيث إن مكوّنات الرسالة، من المفروض أن تراعي عدداً من العوامل والمقومات منها الموضوع وكيفية التعبير عنه بشكل فني راق دون جعل المباشرة والخطابية تستحوذ على الأغنية أو أي نوع آخر من الإبداعات فالأغنية على سبيل المثال تحتاج إلى كلمة جميلة بمضمون عميق، والموسيقى ينبغي أن تكون قادرة على حمل النص لتصل به منغماً مموسقاً إلى أبعد مدى، بينما أداء المطرب هو كلمة الفصل هنا، لأنه السفير المؤتمن على الكلمة واللحن، وبمعايشته لهما وبقدرته على التعبير عنهما بجمالية الصوت ووضوح النبرة والانسجام مع اللحن، سيكون قادراً على تتويج العملية ببصمة النجاح والتفوق. الفن الواقعي الذي يصف الحياة ويلتصق بها كما هي ويعبر عنها بشكل أقرب إلى التقريري، كان له رواده ومشجعوه في فترة من الزمن، إلا إن واقعية الفن، قد جرى عليها تطوير، بحيث دخلت الصورة والتعبير والرمز والمحسنات الجمالية لهذا الفن، ولم يعد مقبولاً إنتاج رواية تتحدث عن القضية الفلسطينية وتبرز المعطيات والحقائق في قوالب خشنة مفتقرة للعناصر الجمالية، وحتى في حالتنا الفلسطينية فإن فن الستينيات، والتسعينيات الذي طغت عليه المباشرة والشعاراتية، أخذ يميل شيئاً فشيئاً إلى الجماليات، لينتج المبدعون الفلسطينيون أعمالاً هي في غاية الروعة والجمال، ولدينا عشرات بل مئات الأمثلة التي تدعم ما رمينا إليه، وحتى أن النتاجات الأدبية في المعتقلات، من السهل للباحث في هذا الشأن، أن يجد فرقاً كبيراً، بين ما أنتج في بداية التجربة من شعر وقصة ورواية وخاطرة، وبين ما تم إبداعه في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت الجماليات هي العنوان الأبرز دون التأثير على المضمون، لأن المضمون الجيد بحاجة إلى شكل فني جيد، يعبر عنه في إطار العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون. إن التجريب ضروري في الفن وإن فننا الفلسطيني والعربي، مطالب بالاستجابة لمتطلبات واشتراطات الحداثة، لكن مع الحفاظ على المضمون والتشبث بالرسالة، فالتجريب ليس من أجل التجريب والإغراق في الرمز الذي لا معنى له، إذا لم يرتبط الرمز بالمضمون أو الرسالة، في المقابل إن غياب الرمز والصورة ودلالات اللغة وموسيقاها يحول النص إلى عمل مقالي سردي، لا يعمر طويلاً. وفي موضوع الغناء، بدأت الساحة الفلسطينية تفصح عن أصواتها ومواهبها، لدرجة أن جدية ومهنية وحضور عدد من المواهب، شكلت مفاجأة، حتى لإخواننا العرب الذين اعتقدوا أن انغماس الفلسطينيين في هموهم ومعاناتهم، قد أفقدهم الروح الجمالية، فإذا بهذه الروح تنطلق محملة بالدهشة. أما على مستوى العالم العربي، فإنني لا أُعير انتباهاً لأصوات نقدية فنية، تنام في الماضي وتصر أن الكبار ذهبوا وباتت الساحة الغنائية على سبيل المثال "عاقراً"، وكأنهم يلجمون حركة التاريخ أو يحكمون على مجتمعنا بالحبس المؤبد في مرحلة زمنية محددة. نعم كان للغناء العربي في الماضي فرسانه، فرحل هؤلاء وظلت ابداعاتهم، إلا أن ولادة الفرسان لم تتوقف، بل شهدت العقود الثلاثة الأخيرة أصواتاً مقنعة ومثقفة طرَّزت حالة اليبّاس السياسي والاقتصادي بواحات من نخيل وكرومٍ من عنب بل وغرست أشجاراً محملة بثمار زيتون كتبها وجسدها "الإبداعي"، وإلا كيف نفسر هذه الأصوات القمم التي نتابعها عبر وسائل الاتصال الحديثة على اختلاف تسمياتها وتخصصاتها، كيف نفسر عظمة أصوات:- نجوى كرم وكاظم الساهر ومحمد عبده وهاني شاكر ولطيفة وأحلام وصابر الرباعي ووائل كفوري وجوليا بطرس، وهبة الطوجي وعلي الحجار وعمر العبدلات وراغب علامة ومارسيل خليفة، كيف نفسر هذا التألق الدائم للفنان عاصي الحلاني، الذي بلسم وجع الأسرى بصوت ولا أروع؟! |