|
مروان الذي اخرج أجمل ما فينا
نشر بتاريخ: 02/05/2017 ( آخر تحديث: 02/05/2017 الساعة: 09:59 )
الكاتب: رائد محمد الدبعي
لم يفاجئنا الأسرى بصمودهم الأسطوري، ولا بثورة الكرامة والحرية التي فجروها كالمطر في صحارى العطش، فمن غيرهم يقدر على قلب الطقوس المعتادة، ليخرج كزهرة البيسلان في غير موعدها المنتظر، أو ينهمر كالثلج من أصابع نيسان الدافىء، من غيرهم يعيد استحضار التاريخ بناره ولهبه ورماده في صورة مروان الثائر، ويمتلك القدرة على القفز كالغزال عن كل الصعوبات، والتفتح كأزهار التوليب في كل زوايا الوطن، ومن غيرهم يتقن صناعة الأمل، ويستحضر النصر من بين براثن الغزاة .
ليس من الصعب أن تنسج صورة حقيقية لمروان ورفاقه البواسل في إضرابهم عن الطعام خلف الزنازين، جسد نحيل، متعب، هزيل، يخلو من الطعام والشراب، فيما يفيض بالإرادة والعزيمة التي لا تلين، عينان ينقصهما البصر، ويكملان البصيرة، وجه شاحب، ولحية كثة، وجباه تعلو فوق الشمس، أقدام تكاد تحمل أصحابها، لكنها تستحيل كجبل الجرمق، في مواجهة العنصريين، قلب يكاد ينبض ليعلن بقاء صاحبه على ما تبقى من حياة، بينما يفيض حبا، وانتماءا، وثباتا على حب الوطن، سواعد تكاد تحمل كأس الماء، فيما تمتد نحو السماء بكل قوة لتبتهل إلى المولى عز وجل أن يكلل معركتهم بنصر قريب، ذاكرة تسكنها فلسطين، والقدس، والوحدة الوطنية، ولا تغادر لحظة مسطبة الروح، وزوايا الذاكرة. أربعة عشر يوما من إضراب الحرية والكرامة، صنعت ما عجزنا عن صنعه في عشر سنوات عجاف من الفرقة والانقسام، إذ استطاع أسرانا من خلف الزنازين، بقيادة القائد مروان البرغوثي" أبو القسام " على إخراج أجمل ما فينا، وأسمى ما فينا، واكتشاف الفلسطيني النقي، الجميل الثائر من جديد، وإعادة تشكيل الوعي الوطني في بوتقته الحقيقية، وبوصلته الصحيحة، وإعادتنا بين ليلية وضحاها إلى صيرورتنا البشرية، ورد روحنا الإنسانية، والوطنية، والوحدوية إلينا، وإعادة الروح إلى الجسد الفلسطيني، الذي أعياه طول الفرقة والانقسام، حتى ظننا أن روحنا تيبست، ومشاعرنا تحجرت، وردود فعلنا تحنطت، فإذا بأسرانا القابضين على جمر الثوابت يهطلون كالمطر، ويصعدون كدعوات الأمهات نحو السماء، ويفرشون الأرض أملا كزهر الياسمين والدحنون، يتفتحون من رحم الأرض سنابل قمح تحيي العباد، و قناديل أمل تنير الدرب، وسرب حمام يفرش ريشه في فضاء الوطن، يأتون كالأطفال بنقائهم، والملائكة بطهرهم، والثوار بغضبهم، والفلاسفة بوعيهم، والشهداء بصدقهم، والأمهات بحرقة دمعهم، والواثقين بحتمية النصر وزوال الاحتلال. نجح مروان ورفاقه في إحالتنا من رايات متعبة، إلى بيارق خفاقة، أعادوا رائحة الأرض والمطر لثيابنا، لضمائرنا، لمشاعرنا التي احتلتها روائح العطر الكيماوي المصنّع في واشنطن، أعادوا رسم الوطن من جديد، بيراع من شجر الزيتون، وحبر من الدم والتراب، ليفشلوا أكبر محاولة تزوير لرسم الوطن على يد مقاولي الأوطان في تاريخ فلسطين، أعادوا رسم قلب الوطن، ورأسه، وعينيه، وفمه، وأطرافه، ودمه النازف، أسرانا أعادوا لملمة الصورة الناقصة، أعادوا الصفحة للكتاب، واللحم للدم المنهمر، أعادوا للثورة شموليتها، وللبحر أسماكه وأصدافه، ولحبة المطر رائحتها ، ولورقة الشجر نضارتها، ولجدائل الصبايا سحرها، ولرغيف الخبز طهره، ولرائحة الياسمين عبقها، ولسجادة الصلاة خشوعها، ولترانيم الكنيسة سحرها، وللحنطة مذاقها، ولفرح الشهداء في عليين طقوسها المقدسة، كما أنهم أعادوا تصويب العلاقة مع الوطن، فالوطن ليس خطبة عرمرمية، ولا هو موعظة مؤثرة، ولا رد فعل عاطفي لن يورثنا سوى المزيد من الهزائم، إنما هو ذاك الشبل المضرب عن الطعام، لكي يفرش سهل مرج ابن عامر بالحنطة والحب والحرية، مروان ورفاق دربه اليوم، هم رسل الوطن الذين حررونا من الوثنية الحزبية، وأعادونا إلى دين الوطن. لمروان ورفاق دربه اليوم طقوسهم التي تكسر كل القوالب، وتتجاوز كل المسلمات، فمروان صباحا يغادر زنزانته المعتمة على الرغم من فاشية السجان، وأسلحته المدججة في كل مكان، وكلابه النابحة والمسعورة في كل زوايا السجن، يرتدي كوفية القائد ياسر عرفات، ويبدأ جولته اليومية بتفقد رفاقه المضربين عن الطعام، ومن ثم يحلق فوق خيم الاعتصام والتضامن، يرفع من معنويات الأمهات، ويبرق لهم قبلة على الجبين، يتسلل إلى ضريح الراحل ياسر عرفات، يعقد معه اجتماعا سريا، لا يعلن نتائجه كونه سر من أسرار الثورة، ومن ثم ينطلق إلى برلمانات العالم، ليخاطب رفاقه البرلمانيين، ويفجر أزمة دولية للمحتلين، يفجر قنبلة إعلامية في " نيويورك تايمز "، ويخلق حالة من التضامن مع فلسطين من أسرى "روبن ايلاند" في كيب تاون، ويحيي أخوته المناضلين في ايرلندا الشمالية، ويثمّن مواقف أمتنا العربية والإسلامية، فيحضر اعتصام في الجزائر، ويلقي كلمة في القاهرة، ومن ثم يقفز كالغزال الفلسطيني ليبرق رسالة لأبناء شعبنا في كل ساحات الوطن، كونه قائد وطني، وأكاديمي بامتياز، ثم يستجمع بعض الوقت ليجتمع بفصائل العمل المقاوم، ويبرق لهم تعليمات المرحلة، فيتلقفها أخوته من رأس الناقورة حتى جنين، كل هذا وهو في زنزانته المعتمة، وبجسده المضرب عن الطعام هو وكل أسرانا لليوم الرابع عشر على التوالي. على الرغم من قسوة الإضراب، ومن الخطر المحدق الذي يحيق بأسرانا في سجون الاحتلال، مع كل ثانية تمر على أمعائهم الخاوية من الطعام، والممتلئة بالإرادة الصلبة، إلا أن لهذه المعركة نتائجها الداخلية أيضا، أولها أنها أثبتت أن الانقسام حفرة يمكن القفز عنها، في مواجهة العدو الرئيسي، بعد أن ظننا أنه جبل علينا تسلقه، لنكتشف جبلا آخر، كما أن معركة الحرية والكرامة قد أعادت مفهوم الوطن، بعد أن ظننا انه وليمة على مائدة طعامنا، ليعود باقة ورد في بستان الثورة، وجبين الأحرار، إضراب الحرية والكرامة أعاد تحرير الوحدة الوطنية من سلعة في سوق العقار، إلى غزالة فلسطينية فضاؤها الوطن . أسرانا أخرجوا أجمل ما فينا، ووحدوا صفوفنا من جديد، وأعادوا تصويب البوصلة، وتنظيم الأولويات، وقد حان الوقت، دون تأخير أو إبطاء، إلى استكمال المسيرة، بروح أسرى الحرية، وإصرارهم على انتزاع النصر المبين. |