وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

قراءة في رواية يافا الجُلَنّارُ لـ"حذيفة دغش"

نشر بتاريخ: 07/05/2017 ( آخر تحديث: 07/05/2017 الساعة: 21:15 )
قراءة في رواية يافا الجُلَنّارُ لـ"حذيفة دغش"
الكاتب: بهاء رحال
في روايته الأولى التي صدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان، للكاتب الشاب حذيفة دغش والتي حملت اسم يافا الجُلنَّارُ كعنوان جدي وجدلي في آن، لكنه يندفع من مضمون الرواية التي تحمل انسانية عالية بانسياب روح الكلام المتدفق وسط فصول الرواية التي جاءت في 292 صفحة من القطع المتوسط وأربعة أناشيد شاءها الكاتب أن تكون مندفعة الحماس والحس الأدبي الشائك بين الخاص والعام في لغة شيقة وشقية ومعانٍ مشاكسة في الظل والعلن وبين الفصول المتوهجة بتتابع الحكاية التي تحمل من البراءة ما يكفي، لتكون شاهدة على حكايات كثيرة ومثيرة ومشابهة ولو اختلفت بعض الأسماء والأزمنة والأمكنة، إلا أن هذه الرواية بها من السحر المكاني ما يحمل في جوفه بلاغة صادقة حيث يتخذ الكاتب أرض المخيم مكاناً لروايته التي أحذت شكل الرومانسي في مراهقات الحياة، وهذا مهم وهي تجربة جديدة تحمل معاني انسانية من صلب المخيم المفعم بالحياة رغم كل ظروف القهر والحرمان، ورغم كل شروط الحياة المعقدة في أزقته وحواريه وشوارعه الضيقه، وهذه تجربة ملفتة وجديرة، ومغامرة أطلقها الكاتب لتكون شاهدة على واقع متعثر، وهي صورة نقية عن المخيم الذي يفرض حضوره رغم كل محاولات التغييب، المخيم الشاهد على حياة متعددة التفاصيل والأوجه.

حوار جريء كذا كتب حذيفة دغش في مطلع روايته، وكذا كانت الرواية التي لم يخب ظني بها، وقد امتلكت جرأة محسوسة تفيض منها تجربة غنية بالدهشة والمصادفة، وهنا كان للمصادفة الأثر الكبير في نفس الكاتب الذي لولا تلك المصادفة لما أمسكت أنا وغيري من القراء بهذه الرواية، ولما حظيت بمتعة القراءة، فمن أي المطالع جئت بكل هذه الصور، ومن أي البدايات نهضت فنهض داخلك المسكون بالكتابة واللغة المشتهاة، في سريالة بهية الحس، صادقة المعنى، قوية العمق، بسيطة تداعب بها قلوبنا وترسم لنا عبر روايتك براءة حب في زمن المخيم، وبشاشة حضور يسير في الأزقة مثل جدارية تنسج في خيوطها رسم الحياة المختلفة، مزركشة ومطرزة على جنبات الحظ، والحظ لا اسم له كما يقول محمود درويش الذي استرشد به الروائي في أناشيد الرواية الأربعة، فكانت فعل نبوءة كما كانت فعل سرد لحكاية لم ينقطع وصلها.
يذهب الكاتب لتقسيم فصول روايته إلى أربعة أناشيد، فيضع في النشيد الأول رجفة البداية ويجمع رسم البدايات في هذيان القلب الذي لامسته مصادفة منذ البداية عرف أنها لن تكون مصادفة عابرة، فلسعته جمرة الانتظار في اتساع الطريق والوقت، ولم تسعفه الصلاة لينجو من حيرة أخذته إلى غياهب الحب في أرض البدايات. ولا أريد من الحب غير البداية يقول درويش، لكني لامست في الكاتب أن بداياته كانت على نحو مختلف، جلها تعب وشوق وانتظار وتودد ومحاولة لتجاوز الوقت، ومسافات من الانتظار في أرض المخيم أو في الضواحي القريبة منه، وهو المصاب بأرق السؤال وأجوبة تناثرت في ليله المسكون بالحيرة، وبماض لم ينس من داخله الطفولي الذي يبحث عن النجاة، وتلك فصول الطفولة الأولى والحكايات الأولى والاختيارات الأولى التي وصفها الكاتب في ذروة شغفه وانفعاله مع واقعه المسكون بكل خربشات البداية، ومثل كل بداية تطوي فصولها سنوات العمر التي تمضي بنا إلى مجهول في المستقبل المنتظر.
الرواية غنية بالصور الشعرية والنثرية، وغنية بالأحداث المتفاوتة وهي تأتي على مرحلة مهمة في بدايات عمر شاب مليء بالاندفاع والحماس والحنين، وبصدق الحب الذي يسكن قلبه ويزين عالمه بأناشيد الحياة والرغبة لولا تجهم القدر، وبعض المفاصل التي تترك لك الباب مفتوحاً لتحكم بنفسك، فلم يضع الكاتب نهايات واضحة، بل ترك بعض النهايات المفتوحة أمام القارئ الذي يدخل في نسق النهايات ليصوغها بنفسه ويكون شاهداً هو الآخر على هذه الرواية التي تجمعت لتشكل أنموذجاً لا يقف عند وجه واحد في رسم الفصول، فتجدها تجمع بين الخاص والعام، وبين الطفولة والشباب، وبين عمر يذهب وآخر يجيء، وبين الحكمة والمراوغة في حزن المصير، ولكنها هذيان حلم يصير حقيقة، ويبعث بجدارة تتأتى من فصولها ملامح الأشياء، وترتسم تعابيرها الناهضة في ألوان تزخرف قماش الوقت.
لغة رشيقة امتلكها الكاتب، لغة سهلة وسلسلة ودون تعقيدات تؤدي بالقارئ إلى توهان في تتبع الأحداث، فهي متزنة الوصف، صادقة المعنى، قريبة الحس ومتجددة، وفي ذات الوقت فقد أحسن الكاتب استخدام اللغة خير استخدام دون تكلف أو تصنع، فكانت صادقة تماماً وقريبة إلى الحد الذي لا تشعر بغربة وأنت تقرأها، فلغتها قادرة على خلق متعة خاصة بين الصورة المرسومة أمامك بحبر أسود وبين القارئ الممتلئ بحماس القراءة، وهذا ما أسجله للكاتب الذي لولا معرفتي به لما صدقت أنها الرواية الأولى له، خاصة وهي تفيض بسرد عميق، ونثر من صور شعرية كاملة الدهشة متناغمة مع أحداث الرواية الغنية التفاصيل والسرد الممتع والرشيق.
يأخذ النشيد الثاني شكل الاشتباك الأكثر حماسة من مطلع البدايات الباحثة عن النجاة، ويتدرج في رصد مشاهد غنية لا تخلو من الحيرة والظنون، ومن التورط في تعلم القراءة على يد الحبيبة وهل هناك شيء أجمل وأشهى من التدرب على القراءة على يد من نحب، فهي الأنقى التي تصادفنا في البدايات وهي الأشهى التي تذوب في معانيها صورنا الشقية حين لا نتوب، ولفعل القراءة ما يعطينا ثقة في أقدارنا التي حتى وإن سخرنا منها تبقى حقيقة تصادفنا، وأقدارنا ليست سهلة لكننا نحاول بما استطعنا أن نتعايش معها رغبة في تجاوز محطات لبلوغ محطات جديدة.
أما النشيد الثالث، فيأتي في غمرة الحب الذي تعاظم في بحر المسافة، فهو بعض أسفار مؤجلة تلج في هذيان الوقت والمصير المجهول الذي ما انفك عن فصول الرواية، مصائر مجهولة تزحف نحو طوق النجاة في المستقبل الغامق الذي يترنح بين صورة بيضاء ساكنة وأخرى رمادية داكنة، لكنه عمر الشباب الذي يفيض بكل ما هو خارج عن الرتابة، وهكذا أجاد الكاتب رسم الصورة كما هي، شقية وشهية ومتراقصة في الزمن الفوضوي الهادر وفي رسم يوميات اتخذت شكل العام، وتداخلت في فصول الرواية ليصيب بها الكاتب ويجمع العام بالخاص في شكل متماهي لا يشعر القاريء بغرابته، وهنا نجح، بل أبدع حذيفة دغش في رصد أحداث لها وقعها في الزمان الذي تدور أحداث الرواية فيه ولم يغفلها، بل إنه منحها حقها في وصلٍ متداخل ولغة رشيقة تنساب مع المشاهد الأخرى التي استطاع الكاتب بحرفية خلاقة الوصل فيما بينها.
وينهي الكاتب روايته بالنشيد الرابع الذي يكشف رجفة قلبه التي آثرت الاعتراف بالسر الكبير والذي حفظه طوال فصول الرواية، ولكنه في النهايات يجني الاعتراف ويؤكد على أن الحقيقة المطلقة في الحب تتجلى صورتها وتنقشع في رسمها وفي أسماء نحملها ونحفظها، وأن الحب الحقيقي هو الذي ينطقنا وننطق به ونبحث على الدوام للقائه ونبحث عن مواعيد تجمعنا في عفويتنا التي تفتقر لأدنى صور الرتابة في التصنع، هو الحب الذي رسمه الكاتب بين سطور روايته، ليكون حباً نقياً صادق المعنى وجدير بكل أسباب الحياة وبكل أوجاع الانتظار.
أربعة أناشيد مليئة بالأحداث، بالصور المسكونة بصدق العاشق الذي أصاب قلبه مسَّ الحب، فطوى أيامه هارباً في واحات الاغتراب وأمسك بقلم الرغبة وبدأ فصول الكتابة عن قصد وصدق نبوءة طاوعت طفولته الهادئة يوم كان ولداً طائشاً في أرض المخيم يحبو على هزيع الفرح.
أربعة أناشيد جريئة بقلم صاحبها المتمرد الذي وهبنا كل هذه المغامرة بحسه الصادق وحبره الذي لم يتعثر ولم يهتز في البدايات بل امتشق الزمان وركب فصول الشجاعة وكان لنا أن نستقي منها فصولاً فلا نرتوي ولا نشبع.
الرواية هي الأولى للكاتب دغش والتي كان لي الحظ في قراءتها تحمل بشارة ولادة روائي ذو قلم جميل وجاد وقادر على الكتابة الشجاعة، قلم متمرد على صور الواقع البليد، قلم واع في تصوير المشاهد وإدراك المفاصل الحية وتطويع أدوات لغته التي فاض بها فامتلأت الصورة بكل ما هو جميل وأخذ يروي حكاية حب ولد في أرض المخيم وكبر بين الأزقة باحثاً عن موعد ولقاء، ليعبر زمانه ويمسك بزمام البقاء حياً، وكأن الكاتب يريد أن يقول، الحب الذي يولد في أرض المخيم يبقى ولا يموت.