|
إدارة البؤس الوجه الآخر لإدارة التَوَحُّش
نشر بتاريخ: 11/05/2017 ( آخر تحديث: 11/05/2017 الساعة: 10:43 )
الكاتب: د. وليد القططي
إدارة التَوَحُّش هي إستراتيجية الرعب التي ينتهجها تنظيم داعش في السيطرة على منطقة ما وإدارتها وإقامة دولتهم، وهي إستراتيجية تمر بثلاث مراحل ذُكرت في كتاب يحمل نفس الاسم (إدارة التَوَحُّش) وطبقها التنظيم على أرض الواقع في كل من سوريا والعراق ويحاول تطبيقها في دول عربية أُخرى. وهذه الإستراتيجية لم تكن لتنجح لولا وجود أنظمة حكم عربية فاشلة تدير سياسية بائسة في دولها تتسبب بدورها في بؤس شعوبها، فإدارة البؤس هي الوجه الآخر لإدارة التَوَحُّش.
إدارة البؤس لأنظمة الحكم العربية وإدارة التَوَحُّش لتنظيم داعش هما وجهان لحقيقة واحدة باطنها فيه الشر والقبح وظاهرها فيه الاستبداد والفساد؛ ذلك بأنهما يستقيان من نفس البئر الملوّثة ببكتيريا التكفير والتخوين، ويشربان من نفس الكأس المسمومة بجراثيم الإقصاء والاستئصال، ويرتويان من نفس البركة الآسنة المليئة بفيروسات الكراهية والجهل، ويأكلان من نفس الشجرة الخبيثة الملعونة التي تنتج ثمار الزقوم بطعم الأوهام والضلالات؛ أوهام الفرقة الناجية والنخبة المُختارة، وضلالات امتلاك الحقيقة المطلقة والسلطة المطلقة. إدارة البؤس لأنظمة حكم مستبدة فاسدة أهدرت عشرات السنين وثروات الأمة في العمل على الحفاظ على وجودها وسيطرة النخبة الحاكمة على السلطة والثروة واحتكارهما وتوريثهما للأبناء على حساب العمل لنهضة شعوبها وإقامة نظام سياسي قوي ومستقر وديمقراطي يضمن تداول السلطة وتدافع القوى وصعود الأصلح والحراك الاجتماعي... فتحوّل الجمود إلى استقرار، والاستبداد إلى نمط حياة، والفساد إلى أصل وقاعدة، والغش إلى شطارة، والوصولية والتسلق والنفاق والانتهازية إلى ذكاء اجتماعي، والنصب والكذب على الآخرين جدعنة وحسن تصرف... وارتبطت الوظيفة بالرشوة والمحسوبية والواسطة والترّقي فيها بإجادة فن التزلف والتقرّب من أولى الأمر ومعرفة من أين تؤكل الكتف، وأصبحت السلطة طريقاً لجمع الثروة والثورة طريقاً للغنى السريع والتكرّش الأسرع. إدارة البؤس لأنظمة حكم متخلفة تابعة عجزت عن حماية الاقتصاد الوطني وتحقيق النمو الاقتصادي وبناء اقتصاد حديث ومستقل؛ بل كرّست التبعية الاقتصادية بعد السياسة للغرب، وشجعت الاقتصاد الاستهلاكي والطفيلي، وأساءت توزيع الدخل بين فئات المجتمع فذهبت شعارات العدالة الاجتماعية أدراج الرياح، ونظمت عملية نهب ممنهجة لثروات الشعب لصالح النخبة الحاكمة والطبقة الطفيلية التي تعتاش على فتاتها، وعطّلت القوانين التي تشجّع الاستثمار الاقتصادي الإنتاجي، واختفت البرامج الاقتصادية الكبرى أو سُرقت، ودُمرّت في عهدها الزراعة فتكونت مدن الصفيح حول المدن لتصبح وكراً للفقر والمرض والجهل والجريمة، وقُتلت ثقافة الانجاز لتصبح الوظيفة مقابل الانتماء والأجر مقابل الولاء بدلاً من الأجر مقابل العمل والإنتاج. وامتد العجز إلى الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وتوفير السلع الأساسية وإيجاد فرص العمل للأجيال الصاعدة. وحتى بعض الحكومات النفطية الغنية لم تسلم من هذا العجز واشتركت جميعها في تكريس نمط الاقتصاد الاستهلاكي والتبعية الاقتصادية، ورسّخت تبعية المواطن للدولة وولائه للحكام عندما اشترت حريته وسكوته مقابل توفير الوظائف والخدمات والسلع الرخيصة. أما عن الجانب الديني من البؤس والتَوَحُّش فحدث ولا حرج عن بؤس الفقه وتردّي الفتوى بين فكي كماشة الاستبداد السياسي والتطرف الديني، فتحوّل دين الرحمة والإنسانية والتسامح إلى دين قتل وذبح وقسوة، وأصبح دين الوسطية والاعتدال والانفتاح على الآخر ديناً للتعصب والتطرف والغلو ورفض الآخر واستئصاله، وبفضل الفقه البائس تحوّلت العبادات الإسلامية من زاد يومي يمنحنا القوة والمدد للتطهر الدائم وتزكية النفس والسمو بالروح والرقي بالأخلاق إلى فقهٍ يُغرقنا في تفاصيل التفاصيل للشعائر التعبدية لتصبح حركاتها وطقوسها مقدمة على جوهرها وغايتها. وتحوّل الإيمان بالقضاء والقدر والتوكل والصبر من طاقة ايجابية ثورية للتغيير إلى طاقة سلبية سكونية للاستكانة والخضوع للطغاة. أما عن دور الفقهاء في إدارة البؤس والتَوَحُّش فكبير- إلاّ من رحم الله- فتحوّل دورهم من التصدي للاستبداد ومقاومة الفساد ورفض الظلم ونزع الشرعية عن الحكام غير المؤهلين وتقويض أركان الأنظمة المغتصبة للحكم... إلى التأصيل الشرعي للاستبداد، وشرعنة الفساد، وتبرير الظلم، وإضفاء الشرعية على حكم الطغاة، وتثبيت أركان الأنظمة المغتصبة للحكم، وإجازة توريث الحكم للأبناء، وطاعة أولى الأمر علينا وليس منا، وتقييد المشاركة الشعبية باختراع الشورى المعلمة غير الملزمة، وإسقاط حق الشعب في اختيار حكامه بإجازة إمارة التغلب، ونزع سلاح المحاسبة والمساءلة والمعارضة والنقد والعزل من الشعب لصالح الحكام. والفقه البائس انشغل بإثبات أن المرأة- نصف المجتمع- عورة كلها حتى صوتها، بدلاً من الانشغال بتمكين المرأة في المجتمع لتعزيز دورها في الإنتاج والانجاز والنهضة. وانشغل بتحريم الفنون بشتى ضروبها وأشكالها من شعر ورسم ونحت وموسيقى وغناء بدلاً من الانشغال بكيفية توظيفها في خدمة المجتمع ورسالته الحضارية والارتقاء بذوق أبنائه وحتى توظيفها في مشروع التحرير والاستقلال والنهضة. وأخيراً انشغل فقهاء السوء والفتنة والشر بإخراج الناس من دين الله أفواجا بتكفيرهم أو تفسيقهم أو تضليلهم بدلاً من هدايتهم وإدخالهم في رحمة الله ورضوانه... |