|
خالي.. ويافا.. ونبش الذاكرة..
نشر بتاريخ: 14/05/2017 ( آخر تحديث: 14/05/2017 الساعة: 12:02 )
الكاتب: سمر الدريملي
ثمانون عاماً كفيلةٌ بأن تجعلني أتردّد في أن أكتفي بسلام اليد باليد؛ دون أن أقبّله، وأن أشعر بشيءٍ من الخجل من أن أرمي بنفسي دفعةً واحدةً في أحضانه..
خالي المهاجر.. خالي اللاجيء.. أتاح لي القدرُ أن ألقاه لأول مرّةٍ في حياتي في العاصمة الأردنية عمان صيف العام الماضي، حيث كنت في رحلةٍ قصيرةٍ برفقة طفلتي التي لم تكمل عامها الثالث، فيما جاء هو لعمان في رحلةٍ صيفيةٍ من مقرّ استقراره في الدوحة. خالي.. الذي يبلغ من العمر حوالي ثمانين عاماً، وهو من مواليد حيّ النزهة بمدينة يافا الممشوقة بكلّ كبرياء وإغراء على البحر المتوسط. هاجر وجميع إخوانه وشقيقاته ووالداه إلى مدينة غزة عقب نكبة عام 1948، ومن ثمّ؛ اختار كلٌ منهم الاستقرار الإجباري المؤقت في بلدان عربية شتّى. عندما علمتُ أنه موجودٌ في عمان؛ وعلى عجالةٍ من أمري بدأتُ ألملم أغراضي وحاجياتي من الفندق الذي كنت أقيم فيه، أمسك الأشياء بيديّ؛ لكنها تتبعثر منّي وتفلت مع أعصابي المتوتّرة الراجفة.. مشاعرُ مضطربةٌ وأفكارٌ كثيرةٌ مختلطةٌ تجتاح عقلي وقلبي.. هل يُعقل أن أرى أحداً من أسرة أمي صوتاً وصورةً ولحماً وعظماً.. بعيداً عن خطوط التواصل الإلكترونية الحانقة الخانقة؟! يا الله..! مش معقول؟ سأرى خالي؟! خالي؟! أول مرةٍ أحكيها؟! سأرى أكبر أشقاء أمّي؛ الذي لم تره أمي منذ أكثر من أربعين عاماً، ولم تنفكّ تذكره على كلّ سُفرةٍ يتربّع فيها اللحم المشويّ وأصابع النقانق؛ كونه كان صاحب مطعمٍ للحوم والمشاوي في يافا. عندما وصلت السيارة لباب البيت الذي يقطن فيه خالي؛ نزلتُ وطفلتي لأجده وقد حارت عيناه يميناً وشمالاً في البحث لهفةً عنّي؛ رغم أنه قد وجدني حتى اغرورقت بالدموع عيناه وعيناي.. بينما نحتضن بعضنا البعض بشدّة، وكأننا نريد أن نعوّض 69 عاماً من النكبة والفراق والهجرة.. فنهتزّ حزناً وأنيناً وفرحاً.. نريد أن نعود بالزمن للوراء؛ حتى تتساقط حبّات برتقالٍ يافاويةٍ عتيقةٍ تحت أقدامنا.. ونشتمّ بعمقٍ رائحة زهرات الفلّ الأبيض المخبأة بعنايةٍ داخل طربوش جدّي الأحمر القاني؛ بينما نسمع صوت جدّتي الأنيق الرقيق -كما تصفه دوماً أمي- توصي جدّي باختيار حباتٍ قاسيةٍ وورديةٍ من حبّات الطماطم من السوق.. نحتضن بعضنا، ونجهش بالبكاء، وتتشابك نبضات قلوبنا السريعة مع دقّات الساعة؛ في ساحة الشهداء بيافا، ومن أعماقنا -وبصوتٍ مكتومٍ مكلومٍ- نلعن النكبة ورائحة الخيمة، ومفتاح العودة. خالي.. شخصيةٌ وقورةٌ، ورغم كبر سنه؛ فهو لا زال يحتفظ بذاكرةٍ قويةٍ ندّيةٍ عن يافا وعن غزة وعن فلسطين وتاريخها، ويمشي منتصب القامة مرفوع الهامة، لم تُصب بشرتَه النضرةَ سوى القليلُ من التجاعيد الخفيفة التي أصابت بشرته خلسةً بسبب الكبر، ويتمتع بحكمةٍ وحنكةٍ تجعلني أشعر بالضيق والحقد على ما أوصلتنا له نكباتنا ونكساتنا القديمة والجديدة؛ حيث لو كان بيننا؛ لكنت قد أستشرته في كلّ خطوةٍ في حياتي؛ حتى في الطبخة التي أريد أن أعدّها نهار كلّ يوم. عندما هدأنا؛ قال لي خالي: "أنا يا خالي صعب تنزل دمعاتي.. بس؛ لمّا شُفتك نازلة من السيارة إنتي وبنتك؛ اتذكرت أمك، وكيف تركتها وعمرها في عمر بنتك، والآن مشي كل هالعمر فينا، ومش قادرين نشوف بعض؛ لدرجة إني عم بشوف بنت أختي وحفيدتها وكأنه 69 عاماً من الزمن تمّ اختزالها في لحظةٍ واحدة". "...حرام يا خالي إللي بصير فينا.. كل ما طالت ذكرى النكبة كل ما انطوت أعمارنا وأعمار أحفادنا من دون ما نعرف بعض.. والله يا خالي لو يعطوني باب يفتح على مساحة بلاطتين في يافا أغلى وأفضل عندي من ترف كلّ القصور والفيلات اللي أحيا فيها". الشيء الذي أجزم أنه سماتٌ مشتركةٌ ومتأصلةٌ منذ عهد الأجداد بين معظم من قابلتُ من أهل يافا في الداخل والخارج؛ هو حبّهم للحياة، وتفاؤلهم عند اشتداد الأمر.. وتغليبُهم الخير على الشرّ بانشراحهم الدائم.. هم يحبون الزهور طبيعيةً أو صناعيةً، يحبون لون السماء الأزرق، ويطلقون العنان لشعورهم بالفرح حدّ السماء وأقصى.. يُجهّزون البدائل وقت الطوارئ، ويختزنون ما يُبقيهم على ذات الميزان من الكيف والمزاج؛ في وقت الحرب والسلم. يتمنون أعماراً فوق أعمارهم.. هم لا يكلّون من الحياة بحلوها ومرّها.. يتفنّنون في ترتيب السُفرة، وإعداد الطعام وإنضاجه وتسويته على نارٍ هادئةٍ، ووقت اختيار كلّ رشّة بهاراتٍ على حدة، ويقضون على الطعام الشهيّ أمامهم وهم لازالوا يبحثون عن الطعم الناقص في الطبق أمامهم.. فهم لا تعجبهم الأشياء إلا باكتمالها وإتقانها.. هم أهل الكرم والجود، ولا يحبّون الإسراف، مبدعون في تدبير الطعام وترقيع الملابس.. ولا يلقون أيّاً من بواقي الطعام أو مستخلصاته، فكلّه يتمّ استثماره؛ حتى لو بإضافاتٍ جديدةٍ تجعله طعاماً مقبولاً لأطفالهم؛ الذين يزحفون تحت أقدامهم في المطبخ. الحمضيات -وعلى رأسها البرتقال- يستغلّونها في الطعام وغير الطعام من القشرة إلى اللبّ، كما تعلّموا من آبائهم وأجدادهم؛ فلا يُلقى منها شيءٌ سوى البذرة. يُكرمون الضيف بجودٍ ونخوةٍ؛ حتى وإن كان على حساب موازنة البيت الشهرية، لذا؛ ليس غريباً أن يُطلقُ قديماً على يافا اسم "أم الغريب" حيث ترحابهم السخيّ بأهل الساحل والتجارة، وراحة الغريب لهم قبل القريب. يتمتعون بعزّة نفسٍ عاليةٍ حتى أنهم يحاولون الحفاظ التعويضيّ على تقدير الذات -عند كِبرِ سنّهم- بإجراءاتٍ وسلوكياتٍ يقومون بها إما بالخفيّة أو العلن، أو على استحياءٍ، حتى أنّ أحدهم قال لي: "نِفسي لو أضمن ترتيب إجراءات مراسم بيت عزائي ودفني، وطريقة استقبال المواسين؛ قبل ما أموت". هم يصلون الليل مع النهار؛ حتى يضمنوا أطول وقتٍ من اليوم؛ متفاعلين ومنخرطين مع الحياة، وبالرغم من ذلك؛ تجدهم يستيقظون مع أول شعاع شمسٍ يتسرّب لجفونهم المغمضة باستمتاع. يتوهّجون في سهرات الصيف، ويتندّرون ويتسامرون في شرفاتهم وبلكوناتهم؛ التي غالباً ما تكون مليئةً بالأُصص الفخارية والأواني البلاستيكية المزروعة بالزهور والرياحين والنباتات العطرية، فيما يحتسون كاساتٍ من الشاي الأحمر بأوراق النعناع الأخضر؛ مع شطائر الجبنة البيضاء البلدية، إلى جانب شرائح البطيخ الحلو؛ بمزجه بمسحاتٍ خفيفةٍ من قطع جبنٍ طيب المذاق. أما في الشتاء؛ فتشعر بأن الدفء.. كلّ الدفء يختبئ في تفاصيل مساكنهم.. حتى أنك تشعر ببردٍ يلسعُ روحك قبل جسدك فور مفارقتك إياها. أما لهجة أهل يافا؛ فمن يسمعها يتأكد من حجم الاحتكاك الحضاريّ الذي مرّت به هذه المدينة العريقة، وأجمل كلمةٍ لديهم لا حروف فيها..! وهي "الشخّرة اليافاوية" للدلالة على الغضب الشديد والاعتراض القويّ. هم يدلّلون أنفسهم، ويظهر ذلك على حُسن هندامهم وطيب رائحتهم ومتابعتهم الشيّقة للموديل والموضة.. ويدلّلون أطفالهم ولا يقمعونهم، ولا يتخذّون ضدّهم تدابير صارِمَةً في الثواب والعقاب، ينصحون ويكتفون بالمتابعة والتوجيه عن بُعد، تماماً كما تفعل أمي التي استطاع القدر الرحيم أن يتيح لها الفرصة بأن ترى خالي وعدداً من إخوانها في الدوحة شتاء هذا العام، وتقضي معهم حوالي 20 يوماً متواصلةً، وصلوا خلالها الليل مع النهار؛ ليواصلوا الحديث، وينبشوا في الذكريات.. ويفصلوا في الصور.. وأخيراً.. ليودّعوا بعضهم البعض؛ على أمل اللقاء. لكن؛ غير المعروف في أيّ وقتٍ وفي أيّة أرض. كل هذه اللقاءات القصيرة والعابرة والخاطفة والإلكترونية لأقارب من الدرجة الأولى؛ ضربٌ في عصب الإنسانية، وتفسيخٌ للامتداد الأُسريّ الطبيعيّ، ووصمة عارٍ على جبين العالم؛ للصمت المُمنهج في الإبقاء على الاحتلال الإسرائيلي المتجدّد كلّ يومٍ في أجيالٍ متوالدةٍ لازالت تنجبها النكبة. أنا لازلت على تواصلٍ مع خالي عبر ما تتيحه لنا وسائل التواصل الاجتماعيّ من إمكانياتٍ وخياراتٍ، لكنّ التواصل بعد رؤيته لبضعة أيامٍ في عمان وجهاً لوجه أصبح مختلفاً تماماً، ولازال يُرسل لي قُبلةً إلكترونيةً "جافةً" عبر جهازه الخلويّ، ودائماً أطمئنه بقولي: "وصلت".. رغم أنها لم ولن تصل..! |