|
69 عاماً وحلم العودة لعله يقين
نشر بتاريخ: 15/05/2017 ( آخر تحديث: 15/05/2017 الساعة: 16:51 )
الكاتب: رقية الحاج حسن
أن تكوني واحدة من جيل كامل مسّت صلب حياتهم النكبة الكارثية وتداعياتها، يعني أن يصبح الحلم بالعودة واقعاً وفعلاً انسانياً نمارسه يومياً لكي نستطيع الاستمرار بالحياة.
أنا رقية الحاج حسن، من قرية شعب في الجليل، من أسرة فلاحية ميسورة الحال، وأنتمي لجيل النكبة ومئات الآلاف من أبناء شعبي الذين طردوا جماعياً مع عائلاتهم من أرضهم الأصلية عام 1948. ولا تسعف الذاكرة رضيعة ولدت في هذا العام الحزين أن تروي ما حل بها وبعائلتها من قبل العصابات الصهيونية، لكنها مع ذلك حفظت، مثل ذاك الجيل، تاريخها عن ظهر قلب كما رواه أباؤنا وأجدادنا، وكما درسناه في كتب التاريخ، ليصبح حافزاً للصمود. في ذلك العام، انهمكت قوى الارهاب الصهيونية وميليشياته بقصف القرية بالمدافع، والتهديد إما بالرحيل عن القرية أو اقتحامها وجمع الشبان والرجال واعدامهم رمياً بالرصاص، حيث اقترفت هذه العصابات المذابح في القرى المجاورة والريف الفلسطيني لارهاب السكان ودفعهم الى الهرب، مثل ما حصل في مجزرة طبريا ودير ياسين ومذبحة عين الزيتون قبل احتلال صفد، وكانوا قد نفذوا عمليات نهب وسطو وتدمير، وانتهجوا سياسة (اطلق النار لتقتل)، وقد عمدوا الى إيصال هذه الأخبار الى القرى الأخرى من أجل حملهم على الرحيل، وبذلك استطاعوا تهجير ما يقرب من نصف اللاجئين قبل بدء حرب عام 1948. إبان تلك الفترة، كنت رضيعة، وسمعت من والديّ في المخيم أن عدداً كبيراً من أهالي قريتنا هربوا تاركين وارءهم كل شيء، وخرج الناس يحملون صغارهم، وهم يبكون وينثرون التراب على رؤوسهم ويصيحون: "وين نروح يا ناس، يا دارنا، يا بيوتنا وبياراتنا". حتى أن والدتي التي خرجت مع المنكوبين المهجرين، بدلاً من تأخذني أخذت الوسادة وهربت، وهي تعتقد أنها تحملني، بينما بقيت أنا وحيدة في المنزل. ومع شدة الهلع والفزع، لم تكتشف أمي أنها تحمل الوسادة بدلأ مني إلا بعد أن قاربت الوصول إلى الحدود اللبنانية، فعادت وافراد عائلتها لتأخذني وتعود بي الى لبنان مرة أخرى. هذا تماماً ما يعني أن يأخذ الهلع مأخذه من أهالي القرية بسبب الممارسات الصهيونية الفاشية. وكما سمعتُ من روايات النكبة التي لم يمل والدايّ من سردها حتى مماتهم، فقد تيقن الأهل أنه كان يجدر بهم الهرب حين علموا بعد ذلك كيف تم قمع الشعب الفلسطيني بضراوة، وطبقت عليهم الاحكام العسكرية، وسيق بعضهم إلى السجون كأسرى، وعذبوا بقسوة، وأعدم غيرهم رمياً بالرصاص. ترعرتُ في مخيم مار الياس في بيروت، وبقينا نلتف حول والدي ووالدتي وهم يحدثوننا كل يوم عن فلسطين ويورثوها لنا كما تُّورث الجينات. تزوجتُ هنا، وأنجبتُ ثمانية أبناء، ولدي سبع وثلاثين حفيداً. ولا زال يطلق علي أبناء المخيم اسم " الست وسادة" بدلاً من اسمي الحقيقي الحاجة "ام علي" وذلك دلالة على أنهم لن ينسوا! فالنكبة لا زالت تعيش في عقول جميع أبناء الشعب الفلسطيني، وخاصة بالنسبة للفلسطينيين اللاجئين، وايضاً اللاجئين الجدد الذين هُجروا قسراً مرة أخرى من مخيمات اللجوء، في سورية. لقد أعاد لذاكرتي استقبال مخيمات اللجوء في لبنان لأخوتهم اللاجئين الجدد من مخيمات سورية ما كان والدايّ ونظرائهم من جيل النكبة يقولونه، ولا زلنا نحن نردده: "نحن جينا هون مؤقتاً، بعد سبعين سنة، مستحيل يكون النا وطن بديل غير فلسطين، فلسطين عايشة جوا يمى وما بتموت وبحياتها ما بتموت، نحنا صحاب قضية، والقضية ما بتموت". فحياتنا في المخيم هو نضال وصمود يشبه تماماً النضال داخل فلسطين، فالنكبة أصبحت نكبات تتوالى، نكبة تهجيرنا الكبرى عام 1948! والنكبة التي نعيشها هنا في المخيمات التي تفتقد الى أقل مقومات الحياة الطبيعية للانسان، وأبسط الحقوق مضطهدة، وممنوع علينا العمل والتملك، وحتى الطبابة كما يلزم. حياتنا صعبة جداً داخل المخيمات، حيث أن البنى التحتية للمخيم قد تنهار في أية لحظة، وقد نسمع عن سقوط بيت هنا أو سقف هناك! والنكبة الثالثة هي نكبة أخوتنا من اللاجئين الجدد من سورية واستقبالنا لهم في مخيماتنا التي تكاد تتنفجر من الاكتظاظ وضيم العيش! لكن المخيم بالنسبة لنا هو معبر للنضال وملجأ مؤقت، ولا يعني لنا أكثر من كونه محطة ينقلنا إلى وطننا الأم فلسطين في يوم من الايام. كل أبنائي واحفادي رضعوا القضية الفلسطينية مذ أن بزغوا للحياة، وكما ورّثها لي والدايّ ورثتها بدوري لهم. لقد تفتحت عيونهم على حياة المخيم، لكنهم يعلمون علم اليقين أنهم سيعودون يوماً ما، فأصغر حفيد لي، وعمره 5 سنوات، لا يغيب عن أي نشاط أو مناسبة تخص القضية الفلسطينية، وتحض على صمود الشعب الفلسطيني، ومواجهة الظلم والعدوان والقهر، ورفض النكبة والهزيمة، والتمسك بحقوقنا، وإقامة دولتنا وعودة اللاجئين الى ديارهم التي شردوا منها بالقوة. ويسمعون ويتابعون معنا ما يحلّ بأخوتنا في فلسطين المحتلة من نكبات متلاحقة، وهم يواجهون نفس مصائر التحدي والبقاء على أرضهم كالتي واجتهتنا، فهي نفس الادوات التي استخدمتها العصابات الصهيونية عندما هجرتنا قسراً من أرضنا، وسلبتنا حياتنا الطبيعية، وهو نفس المحتل الذي يلاحقنا ويطارد أثرنا ويحاول محونا من كل مكان، ولذلك نوصيكم نحن اخوتكم في مخيمات اللجوء بالصبر والصمود، وأن لا تيأسوا، وأن لا تكرروا مأساتنا، بل واصلوا النضال من اجل استرداد حقوقنا، والتمسك بالارض من أجل ابنائنا، موتوا في بيوتكم ولا ترحلوا. لقد أتممت اليوم 69 عاماً، هو عمر النكبة التي ارتسمت على كل قسمات وتجاعيد وجهي الذي أكل عليه مُرّ اللجوء وشرب. وعلى الرغم من أنني حاجة طاعنة بالسن، لكني بانتظار العودة، ووالله لو قُدّر لي سأعود حافية إلى بلادي، وأحمل أبنائي وأحفادي على ظهري الحاني، لا أريد شيئاً من هنا، ومستعدة للعيش في خيمة، لكنها ستكون خيمة على أرض فلسطين، أمتلك فيها نفسي، واشعر بأني صاحبة وطن، اشتم فيها تراب وطني كل صباح، وأبقى صامدة فيه، وأدفن فيه، وسيأخذ حينذاك أبنائي وأحفادي دوري في النضال والصمود حتى ينجلي الاحتلال. وبعد سبعين عاماً اليوم، أسأل انا وجميع اللاجئين، لماذ يعيش شعب بأكمله مرارة النكبة المتواصلة في مخيمات اللجوء، ومثله على أرض الوطن، ولماذا لا يزال المجتمع الدولي ينظر إلينا كحالات انسانية بينما يشكل هو جزءاً من هذه الكارثة الانسانية والسياسية؟ فهو من يتحمل مسؤولية إنهاء هذه المهانة السياسية والاخلاقية باعتباره جزءاً منها، وايجاد حل سياسي عادل وشامل نهائي للقضة الفلسطينية، من خلال إنهاء الاحتلال وعودتنا الى ارضنا أخيراً. |