|
في ليالي رمضان؛ كُنّا .. نلعب!
نشر بتاريخ: 31/05/2017 ( آخر تحديث: 31/05/2017 الساعة: 18:20 )
الكاتب: المتوكل طه
ألعبُ بالكُرَةِ القُطْنيّةِ ، في الشارعِ ..
لم تكن السيّاراتُ قد ارتكبتْ أخطاءَ الزِّلزالِ ، ولم تكن الأضواءُ قد امتلأت بالأرْصِفةِ الضَائعةِ ، نرى بالقمرِ المُشْتَعلِ ،على صفحاتِ الليل ، حجارَتَنا ، ونصيحُ بأعلى ما في النَوْرَسِ مِن شَبَقٍ ، ويمرُّ رجالٌ ، يقصدُ أكثرُهُم جامِعَ حارَتِنا ، ويكون بأنْ أخذوا الجَنَباتِ الضيّقةَ طريقاً للهِ ، ونلهثُ مثلَ النّرجسِ في الجَبلِ الشتويِّ ، ولا نتعبُ .. كُنّا مثلَ صغارِ الخَيلِ نُسابِقُ أصواتَ الّلعبةِ ، نتشاجَرُ ، نصْرخُ ، نعْرَقُ ، نمسحُ ما رَشحَ من الماءِ على الأكمامِ .. ونضحكُ .. كُنّا في حُلمٍ لا يتكرّر ، وأكادُ أرى بضعةَ فتيانٍ تركوا أصداءَ الملْعَبِ للنسيان . *** الأوّلُ ؛ أغراهُ الكَرْمُ الخَمْرِيُّ ، فَغَمَّسَ أفئدةَ العُشّاقِ بماءِ العنبِ المَصْهورِ، وأيقظَ ما في الجَمْرِ من الزَّغَبِ الحَرَّاقِ، وَغَسَّلَ آنيِةَ الغُرباءِ بِدَمْعِ الشَّوقِ ، ونادى في الليلِ على الصُوفيِّ ليشربَ ما أَمْكَنَهُ مِن خَمْرٍ، ليثوبَ إلى الصَّحْوِ ، ويأخذَ في جُبَّتِهِ المؤمنَ والكافرَ، ليروا ما في الكَشْفِ مِن الضّوءِ .. ويبقى المشْرَبُ والنّدمان . والثاني ؛ ناداهُ الموقدُ ! كانت ظُلْمَتُه ضاريةً ، والعتمةُ لا تُنبِئُ بصباحٍ يُشْرِقُ، فمضى للغابةِ يَجْمَعُ ما يَلقى مِن حَطبٍ، أخضرَ أو يابِسَ ، حتى تجتمعَ النجماتُ ، ويرجعُ هذا الليلُ نهاريّاً ، ليرى خُطْوتَهُ في الدربِ الشائِكِ ، ويعيدُ لغُرفَتِهِ مَا أخَذَتْهُ الغِربانُ من الشُرْفَةِ والحقلِ ، ويرفعُ صورةَ بلدَتِهِ للحائط ِ، إذْ هدمَتْهُ الجرّافاتُ .. وما ظلّ سوى التّينِ الشوكيِّ المنسيِّ وأشباحِ الغُولِ على الحِيطان . وأمّا الثالثُ ؛ فلقد غادرَ أبوابَ المدرسةِ ، فقد كان أبوهُ فقيراً حَدّ الكُفْرِ ، وقَسْوتُه الجاهِلةُ سِياطاً تُلْهِبُ أصْداغَ النعناعِ، وما أدرَكَ أنَّ الجوعَ له سِنُّ الأفعى الحارِيةِ ، وأنَّ بنفسجةَ القلبِ تموتُ من الفاقَةِ ، وبأنَّ الأشجارَ ستذوي مِن مِلحِ الجَدْبِ المُتَشَقّقِ .. لكنَّ الطفلَ فتىً يَكْبُرُ في الوَحْشةِ والحاجَةِ ، ويرى صَمْتَ أُمومَتِهِ المكسورَ من الذلّةِ والضَّعْفِ ، وما زال أبوهُ على مقعدِهِ في الزاويةِ الخرساءَ ، بلا عملٍ ، يُطْرقُ ويخبِّئُ عينيه وراءَ أكُفَّ الرَّعْشَةِ، ويسحُّ لهيباً مِن جَمْرٍ مطحونٍ ، يكوي وَجْهَ الزمنِ المُتَغَضِّنِ .. والطفلُ فتىً يهجِسُ ، في ظلِّ السّكّينِ المثلومةِ ، بالهِجْران . والرابعُ ؛ مَسَّتْهُ الرّعدةُ مُذْ كانَ مع الحَبَقِ يطيرُ، فأوَّبَ في الغَيمِ ، وحاولَ أنْ يصعدَ أكثرَ نحوَ الشمسِ ، فذابَ الماءُ، وزَخَّ المطرُ .. وما عادَ ! تَعلَّقَ بالبَرْقِ فَوَزَّعَهُ في الشُّعَبِ الماسيَّةِ ، فتناسَخَ وتَشَظَّى .. ويقالُ بأنَّ الولدَ الصّاعِدَ للرَّعْدِ تماهى في الضوءِ الزّاخرِ ، ويعودُ .. إذا ما عادَ البَرْقُ إلى نيسان . والخامسُ ؛ عصفورٌ يخفقُ بجناحيْهِ على مَدِّ السُّورِ ، لتنبتَ أعشابُ الطّيرِ عليه، وترجعَ زَقْزقةُ القمحِ على الجدرانِ، ولكنَّ الصيادَ يحبُّ طريدَتَهُ الخَرْقاءَ، فَصَوَّبَ نحو الطيرِ ، وأطْلَقَ فولاذَ السّهْمِ ، فأخْفَقَ .. ورمى ثانيةً مِن قَوْسِ الغَضبِ سِهاماً أُخرى ، فانتبَهَ العصفورُ .. وكان السّورُ بعيداً عن عينِ القَنّاصِ ، وما زال الطيرُ على مدّ السّور يُجَنِّحُ ، ويرى بين شقوقِ الأحجارِ صِغاراً تكبرُ بالرِّيشِ، وتنبضُ في لَحْمِ الصُّوّان . والسادسُ يَتَزيّا بِلِسانِ الشَّهْدِ، ويُلْقي ما حَفِظَ مِن الشِعرِ على الوردِ ، لِينْشرَ أطيابَ الرّيحِ ، ويكتبُ لغزالتِنا المَكْحُولةِ أجملَ ما اجْتَرَحَ القَيْسَانِ مِن الغَزَلِ ، فَنَحْفَظُهُ لِنُدَبِّجَهُ برسائلِنا ، ويَخطُّ لنا ما نرجوهُ مِن الحَرْفِ الملهوفِ التوَّاقِ .. فَنَكْتبُهُ عِشْقاً لبناتِ الجيرانِ ، ونرمي الأوراقَ أمام الغزلانِ ، فَتَحْمَرُّ وجوهُ الأقمارِ الممشوقةِ ، ونعودُ إليه ليكتبَ ثانيةً ما راهَقَنا مِن رغَباتٍ ، ونوَشْوشُ أحرُفَنا لتقولَ الأسرارَ لعلّ لقاءً يجمعُ بين اثنينِ ، لنحفرَ فوقَ الجذْعِ حروفَ الأسماءِ الأولى .. لكنَّ الشاعرَ لم يَلْق حبيبتَه يوماً .. بل ظَلَّ خيالاً ما يلقاهُ من الحُسْنِ ، وما انْصهَرَ البرقوقُ على شفتيهِ .. وقد ضاعَ الرّمّان . وأنا السابعُ ؛ لا أدري هل غادرتُ البلدةَ ، أم بَقِيَتْ كُرَةُ الأحْلامِ أمامي ؟ لكنّي وحدي في ذاكَ الشارعِ .. لا أعلمُ إنْ كنتُ كبرتُ ، أمْ ما زِلْتُ صغيراً .. وأُنادي أبناءَ الحيِّ .. فلا صوتَ ولا ردَّ ، فأين الأتْرابُ ، وأين أنا ؟ بل أينَ الحارةُ والفتيان ؟ |