|
التضامن الاجتماعي يتراجع في رام الله والقدس ويصمد في أخرى
نشر بتاريخ: 07/06/2017 ( آخر تحديث: 07/06/2017 الساعة: 16:35 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
التضامن والتعاضد والتكافل الاجتماعي بلغ ذروته في الانتفاضة الأولى، حيث برزت تجلياته واضحة في احتضان أسر الشهداء والجرحى وفي إسناد الفقراء، فلم يُبلغ عن أن عائلة واجهت مصابها وحيدة، بمعزل عن وقوف شرائح المجتمع معها والتخفيف عنها، كما لم يُبلغ عن أسرة واحدة فقيرة جاعت خلال الحصار أو فترات منع التجوال الطويلة، لا في المخيم ولا في المدينة والقرية.
كان الطعام يصل إلى الجميع، وكانت المعونات تخترق الحصار في طريقها إلى بيوت الفقراء، وفي أحيان كثيرة دون أن يعرف من كان يتلقى هذه المساعدات الجهة المبادرة، لكن هذا التضامن شهد في السنوات الأخيرة، تراجعاً كبيراً في بعض المحافظات وتراجعاً نسبياً في محافظات أخرى، مع وجود الاستثناء في المناطق التي حافظت على منسوب التضامن ذاته. وقد يكون لذلك أسباب منها، اعتقاد نسبة كبيرة من أبناء شعبنا، أن المهمة منوطة الآن بوزارة الشؤون الاجتماعية أو هيئة شؤون الأسرى ومؤسسات رسمية أخرى، أو بلجان ومراكز غير حكومية، أو ربما للهوة التي تتسع يوماً بعد آخر بين فصائل العمل الوطني والمجتمع الفلسطيني، بعد أن كانت هذه الفصائل تشكل سنداً ومعيناً للفقراء والمهمشين بخاصة في أوقات الازمات. وقد يكون سبب هذا التراجع أيضاً أن مدناً كرام الله مثلاً، أصبحت تحتكم لعلاقات السوق وفق القوانين الرأسمالية التي تغذي وتعزز الفردية والتمحور حول الذات بعيداً عن الآخرين، حيث دخل إلى رام الله آلاف السكان الجدد الذين قدموا من شمال وجنوب الضفة للعمل في المدينة، على خلفية الطفرة العمرانية والاقتصادية التي شهدتها. فأصبح الساكن في عمارة من ست عشر طبقة، لا يعرفون بعضهم بعضاً، ويلا يهمهم في العمارة سوى داخل الشقة (الملك أو المستأجرة)، كل واحد يرتبط بوظيفته أو تجارته أو مهنته أو مصلحته، تطارده الفواتير والاشتراطات المعيشية المرتفعة، فيركض طيلة يومه لكي يحافظ على مستوى معين من حياته، حيث يلتقي الواحد منا بآخرين في المصعد وهو في طريقه إلى شقته، لا يعرف تماماً هل هم حضروا زائرين أم هم من سكان العمارة، فتلتبس عليه الوجوه، ويصدف أنك تدخل المصعد وينضم إليك عدد آخر من الناس ولا تتبادلون تحية الصباح أو المساء في أقسى تجسيدات الفردانية والإنعزالية التي هي جديدة على مجتمع كان دفئ العلاقات هو القاسم المشترك بين أبنائه، ونستطيع سحب الظاهرة على مدينة القدس وسكانها الذين يسعون فردياً لحل مشكلاتهم الإقتصادية في ركض محموم مع الزمن وفي الزمن. سرّني مؤخراً أن مدينة كبيت لحم بقراها ومخيماتها نجت حتى الآن من مصيدة الفردانية، وظلت ممسكة بحلقة التضامن الاجتماعي، فقد حضرت في بداية هذا الشهر إلى بيت لحم، المدينة التي تعلمت في جامعاتها وسكنت في محيطها أربع سنوات، وهي فترة تفتح وعيي كشاب كان في فترة أواخر السبعينيات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، مشاركاً في حراكها الثقافي والاجتماعي والسياسي، حضرت إليها بعد عقود لاشارك في مناسبة أليمة وهي الوقوف مع الأنسباء في أيام تقبل العزاء برحيل الشاب فريد عبد ربه، الذي خطفه الموت بعد أن عانى مرضاً عضالاً لم يمهله طويلاً، وكان فريد قد تلظى على جمر المعاناة في المعتقلات في الإنتفاضة الأولى وقبلها منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره وقد غمر التضامن عائلة الفقيد من خلال أفواج المعزين من مخيمات الدهيشة والعزة وعايدة، ومن مدينة بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا والقرى المجاورة، التقيت بأصدقاء لم أرهم منذ أربعة عقود، حيث كان التضامن حاضراً بقوة، الكل يعرف الكل، والكل يبلسم حزن الكل، وخيلّ إلي من موج الناس المتدفق إلى قاعة العزاء، أن محافظة بيت لحم بأسرها جاءت لكي تشارك في عزاء شاب عرف بأخلاقه الرفيعة وبوطنيته النظيفة، وأمام حالة التضامن هذه وجدت نفسي انتزع فردانية الحياة في رام الله لأندمج في جماعية الحياة وحرارة المشاعر التي ظلت بيت لحم تحتفظ بها. وللحقيقة ليس كل الحالة في رام الله فردانية، فهناك استثناءات وكما يقول المثل " إنْ خليت بليت"، لكن الطابع العام في بيت لحم ظل منحازاً للقانون العام في تخط صارخ للإستثناءات. النمط الرأسمالي أخذ يبتلع تدريجياً عاداتنا القديمة الجميلة الدافئة التي كان الفرد لا يستطيع أن يتخيل نفسه بمنأى عن الجماعة، لكن بيت لحم وغيرها من المدن في الشمال والجنوب ما زالت تصمد أمام الزحف المشتت والمشظي للجماعة، فهل تستطيع الحفاظ على صمودها؟ سؤال مطروح على الأفراد والمؤسسات في مرحلة الزحف على كل ما هو جميل وأصيل. |