|
بعد ان صرت أطرش
نشر بتاريخ: 11/06/2017 ( آخر تحديث: 11/06/2017 الساعة: 10:34 )
الكاتب: عيسى قراقع
الدكتور ميشيل راحيل ابلغني انني صرت اطرش، نسبة السمع عندي ضعفت الى حدّ كبير، واخبرني انه وجد في داخل جوف الاذنين صدى اصوات غير مفهومة، قال ذلك بأسف شديد.
طلبت من الطبيب ان يجد حلا، احتاج ان اسمع جيدا، واسمع كثيرا، اكره الصمت وقلق الهادئين، وفي هذه المرحلة انا بحاجة الى السمع، لأن الهامسين كثروا، والمغلقة افواههم ازدادوا، وهناك من نحتاج الى ان نسمع دبيب دمهم، وأنات اوجاعهم القابعين في سجون الاحتلال، المحشورين في قبور عميقة لا يسمعهم أحد سواي. الطبيب راحيل اعتذر، وعجز ان ينظف الضجيج المدوي في أذني ويصعد الى رأسي ويهبط الى عيني ووجهي، موضحا ان الغضب والعصبية والتوتر اسبابها ضعف السمع، وما علي سوى ان اركب سماعات وأجذب كل الاصوات المحيطة بي حتى استطيع ان ابحر في تلاطم الكلمات والاقوال ولا اتخلف عن الموجات العاليات. صرت اطرش، معاقا وعضو في جمعيات ذوي الاحتياجات الخاصة، تتشنج اذناي وتتصلب لالتقاط المواقف او الشكاوي او البكاء او الصرخات ، تتشنج عضلات وجهي وتزداد عيناي توسعا لاترجم الكلمات من بين شفاه المجتمعين عندما تعجز عن تفسيرها اذناي. صرت اطرش، فمن يدلني على الذين احبهم، يصير عكازا لمشاويري في المكان، يعينني على المضي قدما لاسمع كل الذين يطرقون على الابواب بجوعهم ودمهم وارادتهم ولأحفظ بدقة اسماءهم ان ظلوا احياء او بعد الممات ، من يدلني حتى لا تتعثر خطاي. صرت اطرش في عالم صاخب تتقاطع فيه المعادلات السياسية والثقافية وترتبك فيه العبارات والحروف وتنطفيء فيه نجوم الميلاد، اهتزت عظامي وتكسرت واجتاحني التناقض بين ما أقوله وما اسمعه، واقف متجمدا حول اسئلتي لا تتحرك قدماي. صرت اطرش، اصرخي ايتها المراة الآن ما تشائين، الطمي ومزقي السكوت المريب وانت تقفين على رأس ابنك الشهيد ، لا أحد يسمع ، طيور تهرب الى اعالي السماء، سياج يتدلى على الوطن والميتين، دم يجف داخل قوقعتي، وتعجز ان تتحرك يداي. صرت اطرش، لذلك الجوع صوت اكبر من الصوت، صوت الحرية الذي يستشعر المستقبل في حواسه السبع، صوت الاسرى المقيدين وقد اطلقوا صافرة الانذار واشعلوا وقود القطار على سكة لحمهم في الزنازين، صوت من يقترب من الموت من اجل الكرامة وهو اجمل من موسيقى تتكسر على شاطيء المسافرين. الاسرى يتحركون بسلاسلهم فيحدثوا اصواتا في كل ارجاء العالم ، يتحركون بكبرياءهم فيهزوا الهواء في موجات وموجات، يصبح العقل البشري في الارض، يصغي الى صوت الجريمة المنظمة هناك، بذار من الملح والقمح الانساني في فلك السجون. صرت اطرش، أفقد التوازن، هناك اذن وسطى واخرى داخلية ، لم تعودا تستجيبا لحركة رأسي، لجنوني، لا اشارات من الدماغ تقول ان على الجميع ان يتحمل المسؤولية، خمسون عاما على الاحتلال ومليون اسير دخلوا وخرجوا وماتوا في السجون، كيث تثمر المعلومات وتنضج في اوراق وملفات مؤسسات حقوق الانسان، كيف الآن يبعث الدماغ الانساني رسائله الى مختلف عضلات المجتمع الدولي ليحاسب دولة الاحتلال ويوقف الارهاب المنظم بحق اسرانا وشعبنا ، احتاج الى حركة اخرى، الى طريقة كي اسمع من حاسة اخرى، ربما من دمي. صرت اطرش، وبدون السمع لاامان من جوع وخوف، ها هم يعربدون في حياتنا، ها هم يحتلون مياه الشرب واشجار المشمش ، يعدمون كل من يسمع او يتحرك ، كلنا صرنا قنابل موقوتة، وكلنا نستحق الموت، فمن يسمع فهو حيّ، ومن هو حيّ يطلق نبضات تفوق لحظة الموت، وقد اكتشف الاسرائيليون النطاق الفوق صوتي لشعبنا واسرانا فبدأوا بقصف السمع واغلاق السجون والحياة بابواب مصفحة بالحديد او الجدران المسلحة. صرت اطرش، حجرات الاذنين ممتلئة بالهواء والملح والقلق، وقد اقفل النفق السمعي ، لهذا صرت اخشى على عائلات الاسرى، الامهات الاطفال النساء، اصبحوا ممنوعين من كل شيء، من الزيارات، من التعبير عن حنينهن التاريخي وتعطشهن لسلام البيت المكتمل في شهر رمضان الفضيل، وصرت أخشى من هذا الشمع المتراكم في اعياد الميلاد، لا احد يضيئه ولا أحد يطفئه ، الكل على الصليب، والكل في غياب. صرت اطرش، جيوبي الانفية اصابها ايضا الضرر، لم اعد اشم رائحة الغاز السام في غرف وأقسام السجون، ولا رائحة الرطوبة في زنازين سجن المسكوبية، لا رائحة للنوم وانا المشبوح جسدا وسمعا تحت سياط التعذيب ، فقد اصبح العدل موتا وابناؤه يصلبون في الميادين وساحات السجون، هناك طفل اعتقد يناديني، هناك حليب ابيض مسفوح على الرصيف. صرت اطرش، لم اعد اسمع صوت الرصاص الا بعد ان ينخر صدري، ولم اعد اسمع صوت السلام الا بعد ان يوقظ اولادي جنود ملثمون يأتون في ساعات الفجر، النعاس لا يسمع ، المطرقة والسندان في أذني لا يعملان، يدعس علينا الجنود، يختنق الهواء في البلعوم، كل ما حولي فراغ عاري كابني الذي اقتادوه في لباس النوم. صرت اطرش، طبلة أذني لم تعد تدق، اين صوت اجراس الكنائس وآذان الجوامع؟ اين الجموع التي تزحف في العصب الوطني والنضالي وتنهض من السمع الاول الى السمع الثاني الى السمع العاشر لتضيء القنوات الهلالية؟ اين الموجات الحلزونية التي لم تتوقف منذ النكبة حتى النكسة حتى اضراب الكرامة والحرية حتى آخر غلاف في طبقات الارض والسماء؟ صرت اطرش، لكن هناك ترددا يشتد، ذبذبات تقاس بالشهداء والاسرى ونفحات عالية في الجنازات والمظاهرات، هناك تردد يشتد ويصل حتى عظام الجمجمة، هناك ضغط في أذني ، اصوات تتنقل الى الاطراف، أفعال منعكسة تصدر مني ، وعندها رأيت موج البحر يصفع الصخر، وترجع الامواج تنطحه برأسها المهتاج. صرت اطرش، لا اسمع عن تضاعف عدد المستوطنين والمستوطنات، ولا عن سياسة الضم الواقعي للأرض، ومئات التشريعات والإجراءات التي تطيل من عمر الاحتلال، لا أريد ان اسمع ان الاحتلال اصبح بريئا من دمنا ونظيفا مما سبب لنا من معاناة وشقاء ، لا اريد ان اسمع هؤلاء الذين يبيضون افعال المحتلين وقد تركوا لنا عظام الشهداء تتلوى في رمال الصحراء. صرت اطرش ، تجلس أذني على رصيف مخيم الدهيشة، من هنا مرّ اللاجئون تاركين قتلاهم في جوف الشجر هناك ، وظلت النظرات تبرق من تحت الجفون الخامدة، رفع النسر عن الشمس يده، وظل دبيب يطن في أذني قادم من الجثث الراقدة. صرت أطرش، لا اسمع آذان الافطار في هذا الشهر المبارك، هل طرقوا الباب واعتقلوا سمعي وتركوني في صدى الهواء، حطت الدمعة وكسرة الخبز فوق المائدة ، انظر الى امي المريضة تبحلق في وجهي بعيون شاردة. صرت اطرش، ها انا استعين بابنتي الجميلة اسيل، هي لاتنطق وانا لا اسمع، مرايا وجوهنا تدل على كلامنا وابتساماتنا وانه لم ينفع لنا اي دواء ، هي تطير في عالمها اشارات واشارات، تتبارى في السماء مع نجوم قلبها ثم فجأة تشهق بالبكاء. صرت اطرش، الى الجحيم، أغلقت قناة اوستاكي وكل القنوات، لم تعد عظام أذني تعمل الآن، ولم اعد استطيع أن اوصل كلام الناس في انابيب الخلايا الشعرية لتصل الى اذن السامعين واصحاب القرار، ظلوا هناك آمنين في الدهليز داخل صدفة حلزونية، يسبحون في سائل لزج يصدّ الكلام. بعد خمسين عاما على الاحتلال صرت اطرش، لكن عندما جاء طوفان نوح، فرّ الحكماء السامعون نحو السفينة ، ورأيت رجالا ينقلون الماء على الكتفين، يستبقون الزمن ، يبنون متاريس الحجارة، رفضوا الصعود الى السفينة، تحدوا طوفان نوح، صعدوا الى جبل لا يموت هو الشعب، وقد رفضوا النزوح. ايها الناس: اصرخوا واصرخوا اكسروا طرشي واصرخوا اريد ان اسمع وأفيق اسمع كل من استشهد ومن سجن ومن صمد في غرف التحقيق اصرخوا.... |