|
العبابيد... تحييد غزة وتسخين الشمال
نشر بتاريخ: 27/06/2017 ( آخر تحديث: 27/06/2017 الساعة: 20:11 )
الكاتب: سري سمور
العبابيد هو مسلسل سوري يجمع بين التاريخ والخيال، ومعنى كلمة العبابيد هو الذاهبون في طرق شتى في شؤون حياتهم أي المتفرقون حتى ولو كان هناك كثير مما يفترض أن يوحدهم ويجمعهم... وما دمنا نتحدث عن سورية من الجانب الدرامي، فإن الحديث يقودنا إلى حقل السياسة، وأحد أقوى أدواتها أي الحرب والمواجهة العسكرية سواء أكانت واسعة وشاملة، أو محدودة، مباشرة أو عبر وكلاء... وهنا نرى صورة العبابيد واقعا لا تاريخا، مثلما رأيناها مرارا وتكرارا في العصر الحديث.
فالتصعيد الأخير على جبهة الجولان، بالتوازي والتزامن مع حديث زعيم المعارضة في الكيان العبري يتسحاق هرتسوغ عن خطر انزلاق كيانه نحو صراع إقليمي، وتسارع الحديث عن تفاهمات بخصوص غزة، ربما يشي بأن المطلوب هو إبقاء حالة العبابيد سائدة في الصراع مع المشروع الصهيوني، بحيث لا يخوض مواجهة محدودة أو واسعة ومفتوحة على أكثر من جبهة؛ حيث أن من هو في هدنة كان بالأمس في حرب، ومن هو في حرب كان في هدنة وهكذا، ولأنه قد تبين ولو لمرة واحدة في 1973 أن (تساهال) لا يحقق النصر، ولا يتقدم إذا حارب على أكثر من جبهة، وصارت إسرائيل تعتمد على تحييد الجبهات ضدها والاستفراد أو لنقل التفرغ لجبهة واحدة دون خطر من جبهات أخرى...العبابيد هي المعادلة وكلمة السر! فمن الصعب أن نقتنع أن الصدفة وحدها سارعت في عودة الدفء بين حماس ومصر، في الوقت الذي يهاجم فيه أصدقاء القاهرة وداعموها العرب حركة حماس سرّا وعلانية، هذا في الوقت الذي تقصف فيه القوات الإسرائيلية مواقع تابعة للجيش السوري النظامي، وتهديد شديد اللهجة من نتنياهو وغيره من قادة الكيان العبري. فإذا كانت غزة قد خاضت الحروب السابقة في ظل معادلة الحياد العربي، فإن المعادلة اليوم تنقلب في اتجاه معاكس، أو هكذا تبدو الصورة حتى اللحظة. وأدرك صعوبة وتعقيد المعادلة وتداخلاتها؛ فعلى الصعيد الداخلي السوري، فإنني سأستحضر من جديد الدراما السورية، التي كانت تقول صراحة أو ضمنا بأن ظلم الممسكين بمفاصل السلطنة العثمانية من جمعية الاتحاد والترقي الواقع على العرب الخاضعين لحكمها، يعطي العرب مبررا لعدم الاكتراث لما يجري للسلطنة على يد الحلفاء خاصة الإنجليز، بل ربما يعطي العرب مبررا وسببا للتحالف أو التعاون مع الإنجليز، والنظام السوري اليوم ربما واقع في موقف مشابه، وعمليا فإن المعارضة السورية لن تقف مع النظام في حرب محتملة مع إسرائيل، هذا إذا لم تفسر الحرب على أنها محاولة لإعادة إنتاج النظام السوري، وإضفاء شرعية جديدة عليه، وتحسين صورته بإظهاره بمظهر الوطنية والقومية...نعم هذا ما ستقوله المعارضة أو جزء منها. بالنسبة لغزة فإن هذه البقعة الجغرافية الصغيرة بمساحتها، المكتظة بسكانها، تشغل أركان كثير من المعادلات السياسية والميدانية والأمنية وبالتأكيد الاقتصادية في المنطقة والإقليم وصولا إلى تأثيرها –بلا مبالغة- على العالم بأسره، وحين نحاول قراءة المعادلة في وعن وحول غزة، واضعين في الحسبان هدف التحييد ينبغي أن نراعي ونضع الأمور والملاحظات والحقائق التالية نصب أعيننا: 1) من السذاجة الظن بأن النظام المصري بقيادة السيسي صار هو وحركة حماس أخلاء ونُزع ما في صدورهما من غلّ وباتوا إخوانا على الخريطة متحدين متوافقين؛ فالسيسي وحماس نقيضين، ليس فقط لأن حماس تنتسب إلى المدرسة الإخوانية، وهي تفاخر بذلك، ولم تغادر ولا يمكن أن تغادر هذه المدرسة فكريا ووجدانيا، والإخوان أعداء السيسي حتى النخاع، ولكن إضافة إلى هذا السبب، فإن حماس بنهجها السياسي والعسكري، تشكل صداعا للحالة التي نشأت بعد كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وبالتالي فإن التقاء الطرفين يندرج في أمر يحتاج كظم الغيظ، والعض على الجرح، والسير في حقل الألغام ولا يمكن أن يفسر بعيدا عن فكرة التحييد بأدوات الضغط الناعمة الصلبة. 2) فكرة ليبرمان بأن تسلم حماس ما بحوزتها من سلاح، خاصة الصواريخ، وأن تتوقف عن حفر الأنفاق وأن تسلم خريطة ما حفرت وتحفر من أنفاق هجومية وغيرها، وأن تسلم الجنود الأسرى-أحياء أو أمواتا- مقابل تحسين ظروف المعيشة في غزة وتخفيف الحصار أو حتى رفعه تماما، ولو تضمن الثمن ميناء ومطارا في غزة، هي فكرة خيالية لا نصيب لها من الواقع، فلم يعد لمثل هكذا صفقات حظ في التطبيق في عالمنا منذ عشرات السنين، كما أن هذا الفكرة تتعامل وكأن حماس مهزومة عسكريا، والحقيقة ليست كذلك، وبالتالي فإن السياسة الواقعية تقول بضرورة تحييد حماس ميدانيا وعسكريا، لأن هذا ممكن لفترة كافية من الوقت، ويمكن تمرير صفقة أو صفقات بشأنه وبسلاسة نسبيا، بينما تظل فكرة تسليم السلاح مقابل رفع أو تخفيف الحصار محل سخرية. 3) المواطن في قطاع غزة بغض النظر عن انتمائه السياسي، هذا إذا كان له انتماء، كره حركة حماس أو أحبها، أو كان بين بين في شعوره نحوها، ذكرا كان أم أنثى من الشيب القلة أو من الشبان الكثرة، من المرضى أو الأصحاء، من العاطلين عن العمل -وما أكثرهم- أو من العاملين بأجور زهيدة، من الموظفين ما قبل أو ما بعد الانقسام، وغير ذلك من تفصيلات حول المواطن الذي قدّر الله له أن يكون في هذا الزمن من القاطنين في هذا القطاع، قد وصل إلى حالة، ربما لا يجوز لي التحدث نيابة عنه وأنا خارج القطاع في السكن والعيش والظرف، ولكن أنا أزعم أنه سئم المناكفات والقصف الإعلامي المتبادل، وتحميل المسئولية التي صار الجميع يلقيها على الجميع؛ ويريد المواطن أن تنتهي هذه الحالة، بالتأكيد ليس بالاستسلام على طريقة ليبرمان، ولكن بما يضمن له الحد الأدنى من متطلبات حياة العصر. 4) المواطن الغزّي ليس جاهلا بحياة الناس في العالم، فهو متعلم، وبيده وسائل الاتصال مع العالم، وبالتالي يعرف أن حالته بتمني جدول 8 ساعات وصل كهرباء تليها 8 ساعات قطع كأفضل حالة (كهربائية) يمكن أن يحياها هو وضع شاذ ولا يعرف له في هذا القرن شبيها، إلا ربما بمن هم خارج الحضارة والمدنية التي يعيشها سكان الكوكب، ويرى المواطن أن حق السفر والتنقل متاح لأي سبب بما في ذلك (شمات الهوا) للناس حول العالم، بينما عليه أن ينتظر أسابيع وأياما للخروج من أجل العلاج من السرطان، وقد تكون هذه آخر سفراته، وفيما يعج بيت الله الحرام بالعمّار والمصلين من شتى بقاع الأرض إلا غزة منذ بضع سنين...كل التفصيلات عن حياة أهل قطاع غزة صارت معروفة، وبالتالي فإن المواطن هناك ربما وصل إلى حالة من السأم تجعله يقبل أي حل يوفر له الحد الأدنى من حياة ترتاح فيها أذناه من ضجيج مولدات الكهرباء المنزلية، وأزيز (الزنانات) وأصوات القصف، وصار لديه قناعة أن حياته يجب ألا تكون إما حصارا تتخلله حروب أو جرعات من الهدوء الممزوج بالألم والمرارة تستمر أياما معدودة كي يستأنف الحياة تحت الحصار، ولا أظن لدى هذا المواطن ترف الاستماع يوميا إلى التبريرات ولا المناكفات ولا المطالبات ولا الكلاشيهات التي تكررت على مسامعه آلاف المرات، دون أن تنتهي بحل ولو جزئي، أو توافق ولو نسبي ينعكس على معيشته...وبالتالي فإن فكرة (العبابيد) لن تكون مرفوضة عموما لدى الغزيين. 5) ولكن السؤال المطروح:هل قبول حركة حماس بالحياد، سيكون له ثمن مجزء حقيقي ومستمر، أم مجرد وعود في الهواء، مع فتح معبر رفح لأيام قليلة، أو حتى للفترة التي سيتم فيها الانشغال بالمواجهة في الشمال؟ وما الضمانات المقدمة؟ والإجابة عن هذا السؤال تبدأ بأن حماس لا تملك في ظرفها ووضعها الحالي ترف الاختيار؛ فذهابها نحو الحرب، قد يجلب لها ولأهل غزة مزيدا من الدمار، وبعد أن تضع الحرب أوزارها سيظل الحصار هو الحصار، ولا تملك ورقة اللعب بالوقت، فهي ليست قطر التي استعاضت عن معابر جيرانها بموانئها البحرية والجوية، فجاءها اللبن الطازج من تركيا، وامتلأت متاجرها ببضائع إيران، فالبحر مسدود أمام حماس والبر يعني إسرائيل أو مصر فقط، وعليه فإن أي شيء يقدم إلى حماس بهدف تحييدها حاليا، هو أفضل من بقاء وضعها على ما هو عليه، ولكن هناك هامش مناورة أمام حماس يتعلق بملف الأسرى حيث يمكنها تحسين شروط التفاوض، وتحريك هذا الملف، وتحصيل أغلب ما تريده، كما ويمكنها وضع نهاية سعيدة لملف المختطفين الأربعة في مصر، وبالتالي فإن حماس ربما تريد إنجاز بعض الملفات(القبض سلفا) التي يستبعد التراجع عنها عمليا، مثل صفقة تبادل وملف المخطوفين، وجعل الملفات الأخرى القابلة للتراجع مثل فتح المعبر، خاضعة لمحاولة الثقة بالوعود المكتوبة أو المحكية، أو (على التساهيل). ما سبق يوحي بأنني شخصيا أوافق على فكرة العبابيد وأشجع وأسعى لترسيخها، والحقيقة أنني أقول ذلك تحت ضغط الشعور بحالة الناس في غزة، متخيلا نفسي في ظرفهم حين تقطع الكهرباء لسبب ما ساعة أو سويعات قليلة... ولكن عند التفكير من أفق أوسع، أرى أنه ربما هي فرصة نادرة لتحقيق نصر أو لنقل إنجاز عسكري له تبعات سياسية إيجابية، في حال فتحت أكثر من جبهة على الكيان العبري، ولو كنت ناصحا وثمة من يستمع لنصحي، لقلت لمن في الشمال وفي الجنوب:لا تكونوا عبابيد، واعلموا أن غنائم فتح جبهتين لهو أكبر وأهم وأعظم من صفقة تحييد جبهة الجنوب أو الشمال طبعا. |