|
بدون مؤاخذة- الانسان وثقافة الحياة
نشر بتاريخ: 03/09/2017 ( آخر تحديث: 03/09/2017 الساعة: 15:46 )
الكاتب: جميل السلحوت
بعد ما يقارب العام من دفن الشهيد بهاء عليان، يستذكر والده المحامي محمد عليان، تلك الليلة الطويلة التي استلم فيها جثمان فلذة كبده، ليواريه التراب مرغما في المقبرة اليوسفية، قبالة باب السّاهرة في القدس، بعيدا عن مقبرة عائلته وقريته الكائنة في جبل المكبر، ويستلم الجثمان الذي احتجزه المحتلون لأكثر من عشرة أشهر، يستذكر محمد عليان تلك الليلة العصيبة، وما صاحبها من تلاعب في أعصاب العائلة التي تمّ السّماح لخمسة وعشرين شخصا منها بالمشاركة في التّشييع، وعند منتصف الليل، فلم يكن التّسليم مؤكّدا، وقد سبق تلك الليلة وعود كاذبة، لكنّ الوالدين كانا على وعي تامّ للتّعامل مع الحدث كيفما تكون النتيجة.
ومحمد عليان الأب الثّاكل، عندما يعود بذاكرته لتلك الليلة الطويلة، ينكأ جراحا لم تندمل، ويفتح خزائن قلب أثقلته الأحزان، فليست كلّ الذّكريات جميلة، تماما مثلما هو الواقع في الفقد، فلا أحزان تضاهي أحزان الوالدين بفقدان فلذة كبديهما، فمن سنن الحياة ومع أن لا الموت لا يقتصر على عمر معيّن، إلا أنّ الغالب في الحياة الطّبيعيّة أن يدفن الأبناء آباءهم، لكنّ المأساة تتتعاظم إذا انعكست سنن الطّبيعة، فيدفن الآباء أبناءهم! ومحمد عليّان الذي لم يغب البهاء لحظة عن وجدانه منذ ارتقى سلّم المجد شهيدا، وإن تظاهر بالقوّة وتحلّى بصبر أيّوب، وبقي يستذكر بهاءه، من خلال ومضات استمرّ في كتابتها بشكل يوميّ منذ ذلك اليوم المشؤوم حتّى يومنا هذا، عاد ليستذكر تلك الليلة الطّولة جدّا، تلك الليلة التي استلم فيها جثمان البهاء ليواريه التّراب، فاعتصر قلبه وعقله وفكره ليفرّغ ما احتملته الذّاكرة من أعباء أدمت قلبه، فأخذ يبوح بأحزانه، وبالموقف الذي فُرض عليه، ولم يترك له مجالا سوى التّحلي بالحكمة التي تظهر مواقف الرّجال في المحن والشّدائد، فإذا كان الانسان قضيّة كما قالها الشّهيد غسّان كنفاني، فإنّ محمد عليان أثبت للقاصي وللدّاني أنّه "قضيّة" وصاحب قضيّة، فسحب الخاصّ على العامّ، وعبّر عن مواقف الآلاف ممّن ودّعوا فلذات أكبادهم الذين ارتقوا سلالم المجد. ووالد البهاء في ذكرياته عن تلك الليلة الطويلة يفرّغ بعاطفة الأب الثّاكل جبالا وبحورا من الأحزان أثقلت كاهله لمدّة سنتين إلا قليلا، ولم يجد بدّا من تفريغ أحزانه كإنسان يفهم معنى الحياة ويقدّسه، وبالتّأكيد فإنّ تفريغ أحزانه كتابة ليس بالأمر السّهل، فكتب ما كتب بدموعه باكيا، وأبكى بواكيا، مع أنّه لم يستدرّ العطف من أحد، ولم يفرض الأحزان على أحد، لكنّها الطّبيعة البشريّة، وهذه العاطفة الجيّاشة التي باح بها في كتابة رواية البهاء تأتي من منطلق إيمانه بقدسيّة الحياة، وبضرورة ترسيخ ثقافة الحياة التي نادى وينادي بها، وكأنّي به يصرخ بصوت عال بمقولة الرّاحل الكبير محمود درويش :" على هذه الأرض ما يستحق الحياة". وإذا كانت جدليّة الموت والحياة من البدهيّات التي يعرفها البشر جميعهم، وإن اختلفوا في فهم معانيها، فإن أب البهاء يراها من منظار إنسانيّ ترسّخ لديه بعد فقدان فلذة كبده، ومن هذا الفهم فإنّه يرى أنّ من حقّ الانسان، أن يوارى التّراب عند رحيله من هذه الدّنيا، وأنّ احتجاز الجثامين هو اعتداء على كرامتة الأموات والأحياء وعلى صالمعتقد الدّينيّ، وعلى حقوق الانسان برمّتها، "فإكرام الميّت دفنه"، وتجربة محمد عليان في احتجاز جثمان ابنه وما يعانيه الوالدان تحديدا جرّاء ذلك، ومن منطلقات إنسانيّة محضة، فإنّه نشط ولا يزال في قضيّة المطالبة بالافراج عن الجثامين المحتجزة لتوارى التّراب. وبالتّأكيد فإنّ محمد عليان بكتابة لرواية البهاء سيرسّخ مفهوم ثقافة الحياة. |