وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

صائب عريقات "شيطان أريحا" و "دانتي فلسطين"

نشر بتاريخ: 24/09/2017 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:05 )
صائب عريقات "شيطان أريحا" و "دانتي فلسطين"
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
في حقيقة الأمر ان مصطلح "شيطان أريحا" هو العبارة التي كان يستخدمها الرئيس الراحل ياسر عرفات في ممازحة كبير المفاوضين الدكتور صائب عريقات، في اشارة الى قدراته العالية على المناورة واتقان أصول اللعبة السياسية "والشيطنة" هنا بمعنى القدرة على الخروج بحلول ومواقف يعجز عنها "الشياطين" من أجل قضية فلسطين.
ولكن وفي طباعه الشخصية يبدو صائب عريقات "رحمن أريحا" فهو مثقف ومتواضع وصاحب فطنة ودماثة اخلاق وحسن فكاهة. وكل من تعامل معه يشهد على ذلك.
يقول عنه مؤيدوه انه المفاوض الذي وثق به ياسر عرفات في أشد لحظات الحصار، وهو الذي أمسك بيده على فراش الموت وقال له: "أوصيك بالقدس أمانة في عنقك يا صائب" فبكى صائب من ثقل المهمة ومن ثقة الزعيم الراحل.
لقاءاتي كثيرة مع الصديق المثقف "ابو علي"، وكنت دائما أسأله عن سر تمسك عرفات به وقال لي ذات مرة : "أمسك أبو عمار بطرف وجهي وهو لا يكاد يرفع يده وقال: لا تخف يا صائب أنا حأرجع" ولكن صائب لم يتحمل اللحظة فانهار يبكي أمامه مثل طفل أمام والده.
صائب عريقات "أبو علي" مواليد عام 1955 في مدينة القدس ويعيش في منزل ورثه عن والده في مدينة أريحا، تخرج من جامعة سان فرانسيسكو عام 1979 وأنهى الدراسات العليا في جامعة برادفورد في انجلترا عام 1983 وعمل محاضراً للعلوم السياسية في جامعة النجاح بينما تولى كتابة الموقف السياسي لمنظمة التحرير في الصحف المحلية بشكل غير معلن.
ومن الكتابة في الصحف الى عضوية بيت الشرق مع الراحل فيصل الحسيني الى مؤتمر مدريد مع الدكتور حيدر عبد الشافي الى مفاوضات واشنطن مع د.حنان عشراوي وصل الى تونس ليصبح من القيادات المقربة والموثوقة عند الرئيس الراحل ياسر عرفات.
في مؤتمر مدريد بداية التسعينيات ظهر عريقات على شاشات التلفزة امام العالم وهو يضع الكوفية الفلسطينية على كتفيه فثارت ثائرة رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق شامير حينها وكشف للأوساط السياسية مدى قدراته الفنية على الامساك بناحية الاعلام واستغلال كل لحظة بث لصالح القضية الفلسطينية فزاد هذا من خصومه وزاد من خبرته التي تعمقت يوماً بعد يوم، فقد تمكن عريقات من تشكيل منتج سياسي جديد هو منتج التفاوض مع اسرائيل.
ورغم أن المنطقة برمتها تعيش عصر الانحطاط لصالح أجندات صهيونية، الا أنه وعبر سنوات من الثقافة العالية والادراك المتميز، خلق اعترافاً بضرورة مبدأ التفاوض أصلاً والذي لايزال ينكره العديدون، ويعتبرونه مثلبة في وجه السلطة وخطيئة ثقافية بحد ذاته.
ثم رويدا رويدا اخذ التفاوض شرعيته من الشارع، وأصبح التفاوض العلني وامام الفضائيات هو الشرعي البديل لحالة (الزنا السياسي) عند بعض العرب الذين يهرولون لفتح القنوات السرية مع تل ابيب، وتجلّى ذلك عند حصار الزعيم الفلسطيني الراحل عرفات وفي أكثر من حالة، حيث أصبح د.صائب عريقات هو القناة الوحيدة الشرعية للتفاوض مع حكومة شارون ما خلق اصطفافا وراءه ضد الذين كانوا يفتحون القنوات السرية مع تل ابيب.
صائب عريقات وفي لقاءاتي معه قال " كل انسان بطبيعته مفاوض واي رجل ينهض من النوم صباحا يقول كلمة صباح الخير بطريقة مختلفة وكل طريقة تحمل في طياتها ايحاءات ورسائل ضمنية" ثم يقول "التفاوض هو علم من العلوم لانه يستخدم علم النفس والرياضيات والبيولوجيا وكل علم لمصلحة التفاوض" ويضيف " لقد أشرفت على تأسيس دائرة شؤون المفاوضات في السلطة الفلسطينية وهي مكونة من 42 فلسطينية وفلسطيني من كل ارجاء العالم حتى ان يفهم أن لا يتحدث اللغة الحربية" وفي اطار لقاء متلفز على الهواء مباشرة استمر اكثر من ساعة، تحدث د.صائب لاول مرة بتلقائية عن اسرار المفاوضات مع اسرائيل فقال: اهم شيء الا يكون للمفاوض مصالح شخصية وان لا يستغل فرصة الالتقاء" بالاسرائيليين ليطلب ادخال 200 كمبيوتر من دون جمرك او 20 سيارة فهذا يعطي المفاوض الاسرائيلي الفرصة ليتفوق عليه ويهزمه سياسيا.
ويقول: المفاوض يمكن الا يقول كل الحقيقة، لكنه ممنوع من الكذب، لا أمام خصومه ولا شعبه ولا أمام قيادته.
وعن كيفية الجلوس مع المفاوض الاسرائيلي قال ان المقاعد تكون بشكل متقابل كما ان تدخين السجائر ممكن- هو لا يدخن- واما الهواتف الخلوية فتبقى خارج غرفة المفاوضات مع امكانية ان يلقي احد المفاوضين عبارة ساخرة او نكتة بين الحين والآخر لكسر الروتين علما ان اللغة الانجليزية هي لغة التفاوض.
ثم شرح بأن المفاوض ليس صانع قرار ولا زعيما ولا قائدا وانما يتلقى التعليمات وينقل الاجابات للقيادة السياسية، وهو يحذر مما اطلق عليه "الشعوب السياسية" وردا على اتهامات خصومه بأنه يفشل دائما في انجاح المفاوضات فيما ينجح مفاوضو القنوات السرية رد بالقول " هؤلاء اخوتي وانا لا يزعجني ابدا وجود قنوات سرية للتفاوض دون علمي بذلك، فالغاية هي الاهم، ويرفض فكرة ان إسرائيل تتعمد افشاله ويقول "انا ساهمت في العديد من النجاحات مثل واي ريفر، بلانتيشن، وشرم الشيخ، وتفاهمات طابا وغيرها".
وينهي كلامه بالقول" ان كل مسؤول فلسطيني أمني او سياسي استغل منصبه لنهب الشعب ومقدراته لن ينجو بفعلته ان آجلا ام عاجلا واذا لم يدفع هو ثمن فعلته فعليه ان يعلم ان أولاد أولاده سيدفعون الثمن".
حين أصدر كتابه حول المقارنة بين علي بن ابي طالب وروجرز، طلب مني الدكتور صائب أن اقرأ الكتاب، فقرأته بعمق، وكان كتابا ثقافيا من النوع الثقيل.  وكتبت عنه مقالة بعنوان (عريقات هو دانتي فلسطين) . فاتصل بي بعد منتصف الليل، وسألني بكل ثقافة : اذن أنت تميل الى تشبيهي بالشاعر الايطالي دانتي اليغييري الذي كتب ملحمة "الكوميديا الالهية" فهل أفهم انك تدعوني للاستقالة وان اذهب الى الاكاديمية. وكانك أردت ان تنصحني ان اتخلى عن ملف المفاوضات وأستقيل. فقلت له بكل ادب : ان مؤلف دانتي من اعظم المؤلفات في بطون المكتبات القديمة، ودانتي لم يحقق النجاح السياسي الذي كان يصبو اليه ولكنه حقق أعظم من ذلك من خلال ثقافته وأشعاره.
وقلت للدكتور صائب من شدة صداقتي به: انا لا أرى فيك الا استاذ جامعيا فذا، وأرى فيك مثقف سياسي عربي كبير وصاحب تجربة لا تقدر بالمال. لذلك انا احب ان ارى عريقات وهو يصرف كل وقته وحياته في تعليم اولادنا وبناتنا طلبة الجامعات الفلسطينية، بدلا من صرف سنوات عمرك في مفاوضة الاحتلال الذي لا يريد أن يفهم.