|
الأزمة ليست في حجم ما نُنتج ثقافياً وإبداعياً
نشر بتاريخ: 15/11/2017 ( آخر تحديث: 15/11/2017 الساعة: 11:29 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
الفعاليات الثقافية والإبداعية التي تشهدها الساحة الفلسطينية وبشكل مكثف تؤكد أن الشعب الفلسطيني، هو شعب حي، متفاعل، قادر في كل الظروف على اجتراح المبادرات والاستمرار في فعله الثقافي والإبداعي، مقدماً الجديد والمدهش، والدليل حجم الأنشطة والفعاليات والإصدارات في كل المحافظات الفلسطينية.
شعب يقدم كل ما يستطيع من أجل أن يحافظ على وجوده، وأن يؤكد حضوره على هذه الأرض، بالرغم مما تعرض ويتعرض له، فنحن هنا نكتب شعراً وقصصاً وروايات وننتج أفلاماً سينمائية وأعمالاً مسرحية وفناً تشكيلياً وموسيقى وغناءً وبحوثاً، ونعقد الندوات ونقيم الاحتفاليات الثقافية. ولا يمر أسبوع واحد دون أن نحتفل بإطلاق كتاب جديد، وكل ولادة ثقافية وعلمية جديدة، تشكل علامة حضارية نعتز بها، ومع ذلك فإن كثيراً من الباحثين يتسرعون في توصيف الحال بالقول إذا كان الواقع الثقافي مأزوماً؟ كيف نفسر هذا النشاط الإنتاجي اللافت؟ الشعب الذي يعيش أزمةً ثقافية، هو الذي لا ينتج أو الذي يكتفي باجترار ماضيه أو المستهلك لثقافات الآخرين. نحن ننتج ونسابق الزمن إنتاجاً، بمعنى أننا فاعلون إيجابيون متجددون، لكن ربما يقصد من يتحدثون عن أزمة، أن الطموح هو أكثر من العمل القائم، وأن الطاقات الفلسطينية تستطيع أن تأتي بالأفضل، وأن التفاعل مع ما ينتج على المستوى الجماهيري من المفروض أن يكون أعلى من حيث شراء الكتب وقراءاتها وحجم المشاركة في الفعاليات. بيد أن الإنتاج موجود ومستمر، فالأفلام الفلسطينية أصبحت تنافس عربياً وعالمياً وتفوز، والأعمال المسرحية حينما تعرض خارج الوطن تلقى التشجيع والاستحسان والجوائز والأصوات الغنائية فاجأت الجمهور العربي واستقطبت اهتمامه، أما المتكرر الذي بات مألوفاً في المسابقات العربية والعالمية كأفضل فيلم أو أفضل ممثل أو معلمة أو باحث أو رواية أو قصة، فكلها شهادات نعتز ونفاخر بها، وهي وإن كانت جائزة لإنسان فلسطيني بعينه، فهي جائزة معنوية لكل واحد من أبناء شعبنا. والسؤال كيف نعيد لفعلنا الثقافي والإبداعي بعده الجماهيري كما كان في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي؟ وفي رأيي أن ذلك يحتاج إلى جهد وفعل دائم متواصل لكي نجذب المواطن إلى ساحة الفعل، وهنا يأتي دور المبدعين أنفسهم ودور المؤسسات الثقافية والمدارس والجامعات والأندية والمجالس البلدية والقروية، ولم أدرج الأحزاب بالرغم من أنها كانت في الماضي ذات فعل وتأثير ثقافي، لكن هذا الفعل توقف، والسبب يكمن في أزمة الثقافي والسياسي المستفحلة داخل الأحزاب ذاتها، خصوصاً حينما اختارت السياسي المباشر المسطّح وجعلت له الغلبة على الثقافي، وقبل أن تسهم هذه الاحزاب في الاستنهاض في هذا المجال، ينبغي لها أن تعيد التوازن داخل أطرها، فالكادر غير المثقف الذي يعيد ويكرر الشعارات السياسية سيكون غير قادر على بث روح الثقافة في أوساط الجماهير، والقائد السياسي الذي لا يقرأ رواية جديدة، أو لا يتابع ما ينتجُ فلسطينياً مسرحياً وسينمائياً سيظل محبوساً في جمود المفاهيم، مسقوفاً بشعارات تفتقد إلى أبعاد وآليات التفاعل مع الجمهور. أقول ذلك ونحن نحيي ذكرى استشهاد الرئيس الرمز ياسر عرفات، الذي كان مهتماً بوجود دور نشر وصحف ومجلات ومراكز بحثية، وكان يتحمس لقصيدة الشاعر محمود درويش وكأنها قصيدته هو، كان الصف الأول في حركة فتح في السبعينيات يضم كتاباً ومثقفين ومفكرين، وكذلك الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب وبقية الفصائل الأخرى، حيث كانت الثقافة والقراءة والمتابعة مقياساً للقياداة الحقة. أما اليوم فقد تراجع الاهتمام الثقافي للقائد كظاهرة، مع أننا نسعد عندما يقوم الرئيس محمود عباس بتقليد شاعر أو مثقف أحد الأوسمة التقديرية، وهذا تكرر في السنوات الأخيرة، لكننا نتحدث هنا عن تراجع عام في الاهتمام الثقافي والفكري على مستوى الأحزاب والفصائل. كانت الحركة الأسيرة وما زالت تنتج الكتاب والمثقفين والإعلاميين والمفكرين، لا سيما عندما كان الحضن الوطني يشكل ظرفاً موضوعياً لبروز المبدعين، إلا أن الوضع تراجع في المعتقلات على مستوى الفصائل، وبقيت الأمور مقتصرة على الأفراد وحماسهم الشخصي للإنتاج، أي أن المسألة أصبحت مرتبطة بالموهبة والاستعداد الشخصي وليس بالحاضنة التي هي غائبة أو شبه غائبة. إن نسبة الاهتمام بالثقافة في ساحتنا الفلسطينية تقلصت على مستوى الاتحادات والجمعيات والنوادي والأحزاب، بسبب انهماك المواطن وانشغاله في قضايا حياتية، وانخفض بيع الكتاب وتدنت نسبة القراءة، فيما ظل المبدعون ينتجون ولم يتوقف عملهم، ربما لأن الإبداع بالنسبة إلى المبدع هو عنوان حياة وأمل، ولأن المبدعين والمثقفين من ناحية أخرى يعتقدون أن هذا التراجع مؤقت ومرحلي، فالثقافة لم تكن قضية صُدفية أو عابرة في التاريخ الفلسطيني، والذي يعود ليتمحص المراجع والوثائق قبل العام 1948، يدرك أن الفعل الثقافي والإبداعي كان حاضراً، وعلى وجه الخصوص في المدن الرئيسة، وأن فلسطين كانت تصدر الصحف والمجلات وتستضيف الفنانين والمثقفين العرب، وأن الأدباء الفلسطينيين تركوا بصماتهم في المشهد الثقافي العربي بشكل عام. نحن الآن نعيش ظرفاً صعباً استثنائياً ملتبساً بين الاستقلال واللاستقلال، ونعاني تشتتاً اقتصادياً بين اقتصادنا الوطني وعملية إلحاقه باقتصاد الاحتلال، بيد أننا لا ننظر لهذه المرحلة من منظور أنها دائمة ومستمرة، اعتماداً على إيماننا العميق بحتمية التحرر وتحقيق الاستقلال التام والناجز، وبالرغم من ذلك فإننا لا نعفي المؤسسات المعنية التي همشّت الثقافي وتركت المبدع وحيداً صامداً مع حلمه يسعى ويجتهد من أجل أن يرى الحلم وقد تحول من إمكانية إلى واقع. |