![]() |
"القدس قوة الحق .... وليست حق القوة"
نشر بتاريخ: 22/12/2017 ( آخر تحديث: 22/12/2017 الساعة: 09:41 )
![]()
الكاتب: د.سـائـد الكـونـي
لم يتسنَّ لي التمتع بالحديث لأحد جديّ، فأحدهما كان في رحاب الآخرة طويلاً قبل مولدي، والآخر إنتقل إليها خلال سنين طفولتي المبكرة، ولكني وعيتُ في نهاية الستينات على عمٍ لي طاعنٍ في السن يسكن إلى جوارنا، ويُبدي إهتماماً بمتابعة أخبار النكسة والتحركات العربية والعالمية بشأنها من خلال الاستماع لبعض الإذاعات العربية المتوفرة حينها، وخلسةً أيضاً لصوت العاصفة. وفي مستهل السبعينات كان والدي من أوائل سكان الحي الذين أدخلوا التلفاز الأبيض والأسود إلى بيوتهم، وكان يبث لثلاثة محطات فقط ولساعات محددة؛ وهم قناتان للتلفاز الأردني، الأولى بالعربية والثانية بالإنجليزية، والقناة الإسرائيلية باللغة العربية. واعتاد عمي أن يزورنا في المساء ليشاهد معنا أخبار السابعة والنصف بالعربية في القناة الإسرائيلية، وأخبار الثامنة في قناة الأردن الأولى، وكنت أراه منبهراً بما يسمع ويُشاهد أمامه في التلفاز، وكلما تيسر له فسحة من الزمن أثناء المشاهدة يسألني: "عمي مين اللي اخترع التلفاز؟"، لُيجيب نفسه بنفسه غير منتظرٍ مني الأجابة، "أميرغا" (يقصد أمريكا)، ويتبع إجابته لنفسه ولي، "عمي أميرغا أقوى من روسيا!"، وهو ما يُشكل إنعكاساً لما في الذهن العربي عموماً من أهميةٍ لدور الولايات المتحدة الأمريكية في التأثير على مجريات الصراع العربي الإسرائيلي، والذي يفوق تأثير أيٍ من دول العالم الأخرى.
كبرتُ ودخلتُ الجامعة لأدرس في سنة أولى مساق مبادئ علم السياسة كمتطلب كلية، والذي أفرد مُدرسه في خطته مساحة واسعة لتعريفنا بنظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، بصفتها قوة عظمى بالغة التأثير في رسم السياسات العالمية، وتحديداً تلك المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، مؤمناً بأن هذه المعرفة ضرورية لأجيالنا الفلسطينية الشابة، التي تُشكل عماد مجتمعنا وحاضنة قيادات شعبنا المستقبلية، التي يُعول عليها في مواصلة ركب نضالنا السياسي، لكسب تأييد وتعاطف هذه الدولة بالغة الأثر والقدرة في تحديد دفة السياسة العالمية، والعمل على توجيهها بما يخدم إيجاد حلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية. وبالطبع لم نكن نحن أول من دُرِّس ولا آخر من سيُدَرَّس عن مدى تأثير الولايات المتحدة الأمريكية، فمن المؤكد أنه سبقنا إلى ذلك الكثيرون في عالمنا العربي وفلسطين المُحتلة من المُعلِمين والمُتعلمين على مدى أجيال وأجيال منذ النكبة تبعتها النكسة، وسيُدَرسُّها ويتعلمها بعدنا أجيال أخرى، الله وحده أعلم بعِدتها. المواقف الشعبية والرسمية الفلسطينية الغاضبة والرافضة لإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المشؤوم عن القدس عاصمة لإسرائيل ورغبته في نقل سفارة بلاده إليها، أظهرت تراجعاً ملحوظاً عن هذا التفكير النمطي الذي ساد لقرون في الذهن العربي والفلسطيني عن إمكانية التأثير الايجابي على الدور الأمريكي ليكون وسيطاً محايداً ونزيهاً في إيجاد حلٍ عادل للصراع العربي-الاسرائيلي. الإدارة الأمريكية بررت خطوة رئيسها بوعود قطعها لناخبيه بنقل السفارة خلال حملته الانتخابية، ويرى متابعون للشأن الأمريكي أن الرئيس ترامب بصدد الاعداد لفترته الانتخابية الثانية، حيث من المتوقع أن تتم في شهر نوفمبر من العام القادم عملية التجديد النصفي لانتخابات الكونجرس الأمريكي، وهو يرغب بتعزيز تواجد حزبه تحت قبة البرلمان بما يضمن التجديد له لفترة رئاسية ثانية لاحقاً. علماً أن المؤشرات لا تُبشر بخير للأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، حيث خسر مرشحها بالأمس القريب لصالح خصمه الديمقراطي في انتخابات ولاية الاباما المحافظة، المعروفة منذ ربع قرن بتأييدها للجمهوريين ويُطلق عليها من قبلهم بـ "الحصن الجنوبي"، في خطوة إعتبرها محللون مختصون ضربة موجعةٍ قويةٍ وجهها الناخبون الأمريكيون للرئيس دونالد ترامب، وفُسرت كذلك على أنها إرتداد عنه وعن سياساته. ومن جهة أخرى، أعربت الإدارة الأمريكية بأن إعلان الرئيس ترامب لا يُشكل تغيراً في مواقفها السابقة تجاه القضية الفلسطينية، فخطوة كهذه كانت متوقعة منذ زمن بعيد، حيث أن الكونغرس الأمريكي كان قد مرر عام ١٩٩٥ مشروع قانون أمريكي يعتبر القدس عاصمة إسرائيل ويتحدث عن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، وما كان من الرؤساء الذين سبقوا ترامب طوال الإثنتين وعشرين سنة السابقة سوى تأجيل العمل بهذا القانون كل ستة أشهر، لأسباب كانت توصف بالدبلوماسية أو القانونية، وتارةً أخرى بالأمنية. أنا شخصياً مُقتنع بتبرير الإدارة الأمريكية الأخير، فقد تعلمنا أن الحكم في الولايات الأمريكية يتسم بالمؤسساتيه، وأن السياسة الخارجية للبلد تحكمها وكالة الاستخبارات الأمريكية برغم هامش المناورة الذي يتمتع به الرئيس الأمريكي في هذا المجال. وإن صح ذلك، فإنه من المُحتمل أن المؤسسة المذكورة رأت في إندفاع الرئيس دونالد ترامب وقلة خبرته السياسية، كونه يأتي من عالم المال والأعمال ويختلف عمن سبقه من الرؤساء الأمريكيين بأنه لم يكن عضواً في الكونجرس، فرصةً طال انتظارها بفتح دُملٍ ملتهبٍ ومزمن، لم يتجرأ أي من أسلافه على فتحه. وهنا أختلف في تحليل هذه الخطوة للرئيس ترامب مع الرأي القائل أنها جاءت تلبيةً لمصالح شخصية بحتة لا علاقة لها بمصالح الولايات المتحدة، لأقول أنه على العكس تماماً، فقد نفذ الرئيس ترامب ما أُجمع عليه تحت قبة مجلس الشيوخ عام 1995، وقبلته الادارات الأمريكية المتعاقبة، ولكنها لم تجرؤ على العمل به لظروفٍ لم تكن مواتية لها بعد. وأما اليوم وقد إزدادت الحالة العربية سوءاً وفرقةً وتشتتاً بعد ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، فهذه فرصة ماسية ينبغي إقتناصها لتمرير ما اتفق عليه وخلق واقعٍ جديد على الأرض، يُحدد معالم أي تسوية مستقبلية للقضية الفلسطينية وفق الرؤيا الإسرائيلية-الأمريكية، حيث أنه لا فرق بين مصالح البلدين المنبثقة من علاقةٍ غايةٍ في العُمق والتعقيد، وعليه لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تكون وسيطاً محايداً في عملية السلام الشرق أوسطيه وهي تُشكل بذات الوقت أحد أطراف الصراع. لن يُقلل ما سبق ذكره من أهمية دور الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، فهي وإن كانت بإعلان رئيسها ترامب قد نأت بنفسها كوسيطاً عن عملية السلام، إلا أنها الآن أصبحت طرفاً متنازعاً معه فيها. وذلك يتطلب منا أن نعمل جاهدين على تحفيز راعيين جُدد لعملية السلام وفق منظومة مصالح مشتركة تعمل القيادة على إنشائها، وأخص بالذكر روسيا والصين والاتحاد الأوروبي وغيرهم من الدول الفاعلة على الساحة الدولية والمعروفة تاريخياً بدعمها لحقوقنا المشروعة التي أقرتها المواثيق والقرارات الدولية. ومن الخيارات الفاعلة الأخرى التي أراها متاحةً للقيادة الفلسطينية، العمل على نقل ملف عملية السلام برمته إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما طالب به الرئيس محمود عباس خلال إجتماع قمة مؤتمر التعاون الاسلامي الطارئة التي انعقدت في اسطنبول في الثالث عشر من شهر ديسمبر الجاري لمناقشة سبل الرد على الإعلان الأمريكي. ومن الممكن أيضاً رسم إستراتيجية سلام جديدة تُبنى على عبارته التي ختم بها خطابه في العشرين من سبتمبر المنصرم في الدورة ألـ 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة "إما الاستقلال وإما الحقوق الكاملة للجميع على أرض فلسطين التاريخية"؛ بمعنى دولة واحدة عاصمتها القدس بحقوق كاملة وشاملة لكل شخص يعيش على أرض فلسطين التاريخية، والعمل على وضع الخطط والسياسات لفضح ممارسات الإحتلال العنصرية ومواجهة الأبرتهايد الإسرائيلي. ولإنجاح خيارات القيادة كافة، لا بد من تكثيف ودعم جهود المصالحة الوطنية، وطي صفحة الإنقسام ورميها خلف ظهورنا، ليتسنى لكافة أطياف العمل الوطني الفلسطيني التوحد في خوض غمار مرحلةٍ مفصليةٍ وحاسمةٍ في تاريخ قضيتنا. وأما عن ما يعنيه إعلان الرئيس ترامب للفلسطينين، فقد عبر عنه رئيس وزرائنا بقوله "حبرٌ على ورق"، ولمندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نقول نحن لا نتوقع سقوط السماء نتيجة لهذا الاعلان، ولكننا على يقين بأن الغيوم تنقشع ولو بعد حين، وتاريخ القدس عبر العصور المختلفة خيُر شاهدٍ على ذلك مهما طال الزمن أو قصر. ومثلنا الشعبي يقول: "ما بضيع حق وراءه مطالب"، فلن تقبل أي قيادة فلسطينية بدولةٍ دون القدس عاصمةً لها، ولا بدولة ممسوخة ومشلولة على المقاس الذي يريده الاحتلال الاسرائيلي وداعميه لها، تُعفيه من تكلفة إحتلاله لأرضنا ومقدساتنا. وفي نهاية المطاف فإن إعلان الرئيس دونالد ترامب لا يعدو عن كونه كشفاً لحقيقيةٍ تغاضينا عنها سنين طوال، ومطلوب منا اليوم تصويب البديهيات والمفاهيم التي نشأنا، إن لم أقل جُبلنا عليها، عن إمكانية التأثير في موقف الولايات المتحدة الأمريكية وكسبه لصالح حلٍ عادلٍ ومقبول لكل أطراف الصراع في المنطقة. ولو كان عمي ما زال حياً لأجابني: "عمي، قوة الحق أقوى وأدوم من حق القوة"، ومجريات التاريخ تشهد أن القدس قوة الحق وليست حق القوة، ولروح عمي مني السلام. |