|
الإبداع ببعديه الوطني والقومي في تجربة الفنان عبد الحليم حافظ
نشر بتاريخ: 20/01/2018 ( آخر تحديث: 20/01/2018 الساعة: 17:48 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
في تجربة عبد الحليم حافظ لم يكن العندليب الأسمر صاحب موهبة فحسب، وإنما قد كرس جهده وأمكانياته مستثمراً كل دقيقة من عمره في خدمة ورعاية وتطوير هذه الموهبة.
فمن حيث القدرات الغنائية عاشت وتزاملت معه في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مواهب غنائية لا تقل عن موهبته مثل عادل مأمون وماهر العطار ومحمد رشدي ومحرم فؤاد وفريد الأطرش وغيرهم ، لكن موهبته تفوقت على مواهبهم وتصدرت المشهد الغنائي والتمثيلي، لأنه وظف قدرات هائلة في صقل هذه الموهبة وإغنائها وتنويعها، حيث امتاز بتحصين موهبته بذكائه وطموحه وصبره وتساميه على المرض وثقافته الفنية والسياسية وسعيه الدؤوب إلى الاستماع إلى رموز الثقافة والأدب في عصره والاستفادة من معارفهم وخبراتهم. إضافة إلى قراءاته اليومية في الشعر ومواكبته للإصدارات الجديدة. ولأنني كنت من المعجبين بهذه الموهبة منذ طفولتي وحتى الآن، فقد لفتني كل ما كتب عن عبد الحليم وتابعت لقاءاته الفنية وأفلامه واستمعت مطولاً لشهادات من معاصريه حول فنه، لأجد فيه مثالاً للمبدع المجتهد الذي كان يعد لأغانيه وأفلامه الجديدة حتى في فترات مكوثه في المشفى لتلقي العلاج من مرضه الذي أنهى حياته وهو في أوج عطائه. استفاد عبد الحليم من مرحلة الناصرية، وعرّف كيف يتعامل معها، ليس هذا فحسب، وإنما آمن حقيقة بمبادئها، ووضع طاقاته في خدمتها، لم يغن مسايرة أو مجاراة لمرحلة عبد الناصر ولم ينقلب عليها، كما فعل فنانون من جيله، حيث استمر وفياً لها، ولم يتوقف عطاؤه الوطني والقومي مجرد رحيل عبد الناصر. ولو كان غناؤه مسايّرة، لما خرجت أغانيه بتلك الحميمية والحماسة والتفاعل والتفوق على الذات، حيث غنى للقائد والشعب وتأميم قناة السويس وللصمود في العام 1956 وغنى للمصانع والمعامل التي شيّدت وللعامل والفلاح والجندي والموظف كما ظهر ذلك في أغنية "صورة"، غنى للانتصارات ولم يقف مكتوف اليدين أمام الانكسارات فأبدع بالشراكة مع الأبنودي وبليغ حمدي أغنية "عدى النهار" التحشيدية على أثر هزيمة 1967، وغنى للقدس بعد وقوعها تحت الاحتلال أغنية "المسيح". كان عبد الحليم يؤمن بأن الفنان لا يمكن أن يعيش بمعزل عن هموم شعبه وأمته، وظل ابناً باراً لعصر قومي وتنموي جديد، صحيح أن هذا العصر تعرض للاجهاض والتدمير والتفكيك، لكن بقي هذا الفنان ظل ممسكاً بأدواته مؤمناً بعروبته، متنقلاً بين البلدان العربية ينشر الفرح والتفاؤل ويبلسم الوجع. إن سر نجاحه واستمرار حضوره المكثف في المشهد الثقافي والفني، يكمن في قدرته الاستشرافية، حيث سبق مرحلته ولامس مراحل قادمة، فقد غنى الأغنية الوطنية والعاطفية والشعبية والخفيفة والطربية الطويلة، وغنى القصائد وقربها إلى الناس وأسهم في رفع الذائقة الفنية على المستوى الشعبي كما قصائد"حبيبها" و"لست قلبي" و"رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان"، وغنى كذلك "الكليب" في فيلم أبي فوق الشجرة "قاضي البلاج" مسجلاً السبق على هذا الصعيد. لقد اشتدت المنافسة بينه وبين فريد الأطرش في سنوات الستينيات، لكن الغلبة كانت في النهاية لعبدالحليم لماذا؟ لأنه خرج عن النمطي والمكرر، فريد كان يلحن لنفسه ويغني بنفس الأسلوب، فيما عبد الحليم استفاد من مجموعة كبيرة من الملحنين ومنهم الطويل والموجي ومراد وبيلغ وعبد الوهاب وحلمي بكر. أما موهبته التمثيلية، فقد شهد لها الجمهور والنقاد والسينمائين، ولم يحشر نفسه في السينما من خلال الأغنية، فهو يعيش الدور بكل تفاصيله ويتقمص الشخصية، لدرجة أن كبار السينمائين أكدوا أن عبد الحليم يستطيع إنجاح فيلم بالاعتماد على التمثيل ودون عناء. وشهدنا في مرحلته أن هناك فنانين دخلوا الميدان السينمائي من باب الاغنية ولم يتمكنوا من التفوق في التمثيل لأنهم اعتمدوا فقط على مواهبهم الغنائية، فالأطرش كان ملحناً ومطرباً موهوباً ، لكنه افتقر إلى مقومات الممثل الناجح ، وهذا انسحب على محرم فؤاد ومحمد رشدي وعبد الوهاب، وحتى أن أم كلثوم نفسها التي لا يجاريها صوت طربي لم تستطع إثبات نفسها كممثلة في السينما حينما جربت ذلك. لكن ما الذي يمكن استخلاصه من تجربة عبد الحليم الفنية؟ أول الاستخلاصات وثانيها وعاشرها، أن الموهبة وحدها لا تكفي، لأن المطلوب، تغذيتها بالذكاء والجهد وطول النفس والصبر والتنوع والثقافة العامة والقدرات الاستشرافية والاجتهاد الدائم ، لكي يتسنى لها أن تعيش وتستمر ما بعد المرحلة، كما فعل درويش في الشعر، وكما فعلت فيروز أيضاً في الغناء، والسؤال كيف نغني ونكتب شعراً وقصة ومسرحاً وفناً تشكيلياً أبعد من مرحلة وأبعد من سنوات معاشة؟ هذه هي مهمة المبدع الاستثنائي وليس الكاتب والمطرب العادي. |