|
رواية نسيم الشّوق والحياة الاجتماعيّة
نشر بتاريخ: 18/04/2018 ( آخر تحديث: 18/04/2018 الساعة: 21:03 )
الكاتب: عبد الله دعيس
عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة صدرت هاذا العام 2018 رواية نسيم الشوق للكاتب المقدسيّ جميل السلحوت، وتقع في 272 صفحة من الحجم المتوسط، ويحمل غلافها الأول للوحة للفنّان التشكيلي محمد نصرالله: تهبّ نسائم الشّوق في لحظات الغيّاب، فتشرئبّ الأنفس لتتنفّسها من بين أدخنة الفراق. فما النّسائم التي يطلقها الكاتب في روايته؟ وأيّ شوق يتحدّث عنه؟ تهبّ نسائم الشّوق للحريّة، على الأسرى الذين يقبعون في سجون العسف، فيتنفسها بطل الرواية سهيل، ويخرج من السجن الصّغير إلى السّجن الكبير، كما عبّر عن ذلك الكاتب. تهبّ نسائم الشّوق للذين ارتحلوا إلى بلاد الغربة وهجروا الوطن، تهزّ هذه النسّائم قلوب أحبّتهم في وطنهم، لكنها لا تجد إليهم سبيلا في منافيهم، وتهبّ نسائم الحبّ والعشق، فتكسر الحواجز الاجتماعيّة، ويتنفّسها العشّاق بعد أن يتخطّوا جميع الصّعاب. وتهبّ نسائم العلم وتتسلّل من بين خيوط الجهل، وتنير الدّرب لسالكيه، وتهبّ نسائم روح التحرّر من القيود الوهميّة التي تفرضها بعض العادات الاجتماعيّة، فتنحلّ العقد بسهولة وسلاسة، ويهب نسيم حبّ الوطن، فترتحل الشخصيّات فيه، وترسم صورة حيّة لمدنه وريفه. رواية نسيم الشوق تتحدّث عن الحياة في فلسطين في الفترة اللاحقة لحرب عام 1967 واحتلال باقي فلسطين، وقد استقرّت الأمور لصالح الاحتلال، وبدأت الحياة تتخذ منحى طبيعيّا في ظلّه في بداية السبعينيّات من القرن العشرين، وبدأت الكثير من التّغيرات الاجتماعيّة تسري في أوصال المجتمع الفلسطيني، الذي انفتح على المناطق المحتلة عام 1948 وانفصل عن محيطه العربيّ. وبينما كانت المقاومة الفلسطينيّة متواصلة، إلا أنها ضعفت بسبب الخلافات مع الأردن واخراج الفدائيّين منها. يلفت الكاتب النظر إلى الأسرى الذين كانوا يقبعون في السّجون في تلك الفترة، دلالة على استمرار المقاومة، لكنّه يركّز على الحياة الاجتماعية في القرى والمدن الفلسطينيّة تحت تأثير الواقع الجديد، يركّز على التنوّع الديني في المجتمع الفلسطينيّ، والعلاقات الوديّة بين المسلمين والمسيحيّين، والعادات والتقاليد التي تحكم كليهما، ويتطرق لموضوع مهم وحساس، وهو الزواج المختلط بين المسلمين والمسيحيّين وما يواجه ذلك من مشكلات. الزواج المختلط، الذي أشار إليه الكاتب في هذه الرواية، موضوع في غاية الأهميّة. فهذا الزواج لا يتعلق فقط باختلاف الدّين كما في الرواية، ففي مجتمعنا، ما يزال زواج ابن القرية ببنت المدينة أو البادية، من المحظورات التي تشكّل معضلة اجتماعيّة رغم التآلف الاجتماعي والتسامح الديني في مجتمعنا الفلسطيني؛ لذلك فإن تناول هذا الموضوع حيويّ ومهمّ. يختار الكاتب المكان والزمان في روايته بعناية، فالزمان هو بداية السّبعينات حيث التّغير المتسارع في الحياة الاجتماعيّة في المجتمع الفلسطيني بفعل الاحتلال، وكذلك بسبب الانتشار السّريع للثقافة الغربية في تلك الفترة مع تقدّم وسائل الاتصال ودخول جهاز التلفاز إلى البيوت. تقع معظم أحداث الرواية في بيت حنينا إحدى قرى القدس، وفي بير زيت- وهو اختيار موفّق- حيث كانت بيت حنينا الجديدة تتحوّل بسرعة إلى حياة المدينة، وينشأ فيها مجتمع مختلط من القرويين والمدنيين والمسلمين والمسيحيّين بخصائصه المستجدّة تحت ظل الاحتلال، وكذلك بفعل الهجرة المتسارعة إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. وكذلك بير زيت التي يقطنها المسلمون والمسيحيون، وكانت جامعتها النّاشئة تستقطب الطلبة من مختلف المناطق والمشارب. ومما يميّز هذه الرواية رسمها لصور حيّة متحرّكة من المجتمع مع أدقّ التفاصيل. فنرى فيها مشهدا حيّا لخروج الأسير من السجن، وما يرافق ذلك من احتفال، ونرى فيها تعامل المجتمع مع حالات الوفاة، وفترة العزاء وما يدور أثناء ذلك من أحاديث، وكذلك عادات الخطبة والزّواج والولائم، والعلاقات الاجتماعيّة داخل البيوت في المدينة والقريّة والعلاقات المشتركة بينهما. ويطعّم الكاتب روايته بعدد كبير جدّا من الأمثال الشعبيّة والتي جاءت في سياقها دون إقحام، وكذلك الأغاني والأهازيج الشعبيّة. وفي خضمّ الحديث عن العشق والزواج المختلط وما يرافق ذلك من محاذير، لم ينس الكاتب أن يتطرّق لموضوع الهجرة وأثرها على الحياة الاجتماعيّة، فمديحة تعيش وحيدة مع أمّها بعد أن هجرهما والدها ثمّ حرمهما من إخوتها حين استدرجهما إلى الغربة. تعاني مديحة من آثار هذا الغياب وكذلك أمّها، لكنّها تحيا حياة منفتحة وقد نالت حظّا من التعليم، وتعمل مدرّسة وتقود سيّارة، ثمّ تتزوّج ممّن تريد، وترفض الزّواج بابن خالتها التي سمّيت له منذ طفولتها، لأنّها تراه كأخ لا كزوج، مزايا لم تتوفّر لقريناتها في تلك الفترة، وربّما لم تكن لتحدث لو عاشت في كنف والدها. وكذلك يتطرّق الكاتب لموضوع بيع الأراضي الزراعيّة من أجل توفير المال الكافي للهجرة! ومصادرة الاحتلال للأراضي، وكيف انعكس هذا جنبا إلى جنب مع الغربة إلى إهمال الأرض وتدهور الزراعة. يستخدم الكاتب لغة سهلة غير متكلّفة، ويعتمد كثيرا على الحوار الذي يدور باللغة المحكيّة، والذي يعطي لمسة اجتماعيّة صادقة، ويمكّن الكاتب من نقل القارئ للعيش بين أفراد المجتمع في تلك الفترة، يحسّ بكل مشاعره أنّه هناك، في ذاك المكان وذاك الزمان. يُغرق الكاتب في ذكر التفاصيل، فيُظهر كلّ حركة وكلّ سكنة لشخصيّاته، هذه التفصايل التي قد تبدو زائدة ولا داعي لها إلا أنها هي التي تعطي القارئ هذا الشعور، وتنتقله إلى الحياة الاجتماعية بأدقّ تفاصيلها. يقود الكاتب القارئ إلى رحلات في أنحاء فلسطين، يصف أرجاءها بدقّة بالغة، يتنقّل النّاس بحريّة مع بعض التنغيص من حواجز الاحتلال، بخلاف الفترة الحالية حيث لا يستطيع الفلسطيني الانتقال من بلدة إلى أخرى إلا عبر طرق ملتفّة ومعاناة كبيرة، وتصاريح خاصّة من الاحتلال. وما أحوجنا إلى هذه الذكريات، وقد تقطّعت أوصالنا، وانطلت حيل الاحتلال علينا، وبدأنا نقسّم بلادنا حسب مفهومه ومخطّطاتهم القارئ لهذه الرّواية يلحظ البصمة الواضحة لأسلوب الشيخ جميل السّلحوت المحبّب والممتع، وهي إضافة مهمّة لسلسلة رواياته السابقة، تسير على نسقها، وتضع حلقة أخرى في سلسلة متشعّبة زمانيا ومكانيا، إلا أنها مترابطة، ترسم لوحة جميلة لفسيفساء الحياة في فلسطين. |