|
باحث في الشؤون السياسية يقرأ وعي الرئيس ومقاربته السياسية
نشر بتاريخ: 30/04/2018 ( آخر تحديث: 30/04/2018 الساعة: 22:45 )
الوقوف فوق "جبل أحد سياسي" في لحظة تتبارى فيها المخاطر مع الفرص.
تنويه في تقدير الباحث والخبير في الشؤون السياسية محمد فرحات جرادات، فإن الفلسطينيين يمرون بواحدة من اعقد اللحظات في أخر قرن من حياتهم، ويقول إن مستوى وعي غالبيتهم (نخباً وقوىً سياسية ومجتمعاً أهلياً معاً) لا يتناسب مع حدة الأسئلة المطروحة والاحتمالات المتوقعة، كما تقول ذلك مؤشرات كثيرة لا تحتاج لجهد في معاينتها، سواء، عند أغلب المجتمع السياسي وقواه المختلفة، كما عند أغلب المجتمع الأهلي وكتله المختلفة ، حيث يشترك كلا الطرفين في غياب الدليل الناظم والمتفق عليه للرؤية والموقف والخيارات، كشرط لانتظام قدرة إي جماعة . كما يعيشان حالة من التعثر في تجديد المقاربات وإعادة إنتاج الوعي المناسب على ضوء متطلبات التعامل الايجابي مع الواقع وتحدياته، وعموما عندهم مشكلات كبيرة في تخليق الفاعلية المناسبة والفاعلين السياسيين الجدد، وعندما يجري تخليق الفاعلية يغيب التثمير السياسي المناسب. ويرى فرحات المنخرط ثقافيا وسياسيا في المشهد الفلسطيني ويتابعه عن كثب، منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً،وبالتحديد منذ الخروج الفلسطيني من بيروت إلى تونس عام 1982، كاتبا وصحفيا وباحثا ومتأملا وشاهدا ومهتماً بدراسة بنية الوعي والثقافة الفلسطينية وطريقة تعاطيها مع الأمور، بأن الضرورة والحاجة السياسية تتطلب من الفلسطينيين تطوير مقاربة أخرى مختلفة عما عهدوه في تعاملهم مع المشكلات والحلول من أبسط الملفات حتى أعقدها.لأن الأزمة البنيوية "المستدامة" التي يعيشون في كنفها تتواصل وتتعاقب وتتصاعد قدما عبر الزمن والأحداث، إذ يقفون إزاء مشكلات شاملة تحتاج بالقوة لإيجاد مخارج لها و وبلورة حلول. وهذا التحدي يلقي بنفسه على القوى والنخب السياسية الفلسطينية على نحو لا يمكن تجاوزه، او التحايل عليه بأي صيغة من معهودات التعاطي الفلسطيني وسوابقه. في العرض التالي يقدم محمد فرحات قراءة حاولت أن تكون شاملة لوعي الرئيس محمود عباس باعتبار محورية دوره في لحظة حرجة ولمقاربته السياسية، وهذا العرض هو حصيلة "نقاش عام وخاص وحوارات متعددة الأشكال " جرت في مراحل مختلفة، بعضها جاء في برامج سياسية تلفزيونيه، وبعضها جاء في مقالات، وبعضها تضمنته تقديرات مواقف ، وبعضها قيل في حلقات ضيقة وأخرى موسعة. خالد سكر في تقدير الباحث محمد فرحات فإن " أهم ما يميز الرئيس محمود عباس، هو وجود رؤية ومقاربة سياسية مستقرة له على علاقة قوية مع "عقلانية ما" تحكم قراءته السياسية للمشاكل والحلول، وقد حافظ على تجانس هذه الرؤية طوال حياته السياسية ولم ينقلب عليها، رغم أن الواقع والمسار الذي عرفه الفلسطينيون والمنطقة قد شهد تقلبات وانقلابات واسعة. وإن تواصل واستقرار رؤيته هو أمر لافت بكل حال، في مناخ وبيئة ومجتمع ميال غريزياً للتعبئة غير المفضية إلى نتيجة مقبولة ويرتاح إلى أوهامها ويتلافى الذهاب لعقلانية (قد) تفضي به إلى شيء ما مفيد ... .. ويقول الباحث فرحات، من اللافت أن يبرز "شخص ما" في حيز كالحيز الفلسطيني المعاصر وعقده ورواسبه، ويحمل مقاربة عقلانية، ويواصل حمايتها طويلا وتجربتها كثيراً ،بالرغم من أن سعيه لتطويرها قد كان أقل من عملة في تجربتها، خصوصا جهة فتح العقلانية على أفق الموضوعية وسعتها الهائلة... وأسوة بكل المقاربات فإن المقاربة العقلانية التي يحملها الرئيس عباس ( لها وعليها) وهو شخصياً يؤمن بهذا التوصيف "لها وعليها"، ولم يشر يوماً لا من قريب ولا عن بعيد بأن مقاربته معصومة، والعصمة في المقاربات السياسية غير موجودة أصلا، والرئيس عباس بحكم تركيبة وعيه هو ضد المعصومية في السياسة أو هكذا يفترض....... لكن يظل الأمر الأهم في قراءة "ما لهذه المقاربة وما عليها" مرتبطاً بزاوية النظر التي يرى من خلالها المعنيون الأمور، ومدى اتساع هذه الزاوية ونزاهة المنطلق الذي يحكمها. لأن النزاهة لها دور حاسم في تحديد الموقف عند تقدير الأشياء "بما لها وما عليها ". علما وأن الجماعة الفلسطينية عموما و ثقافتها تنطوي على عيوب ومشاكل وعُقد كثيرة في طريقة التقييم والنقد والتشخيص . ويوجد عند الفلسطينيين أزمة عميقة مع النزاهة والموضوعية في عملية تقييم أي شيء تقريبا... وبخصوص مقاربة الرئيس عباس ، وبغض النظر عن تأيد الناس لها آو معارضتهم ، فأن الأمر ينطوي على شجاعة مبكرة في التفكير كانت عند الرجل يجب الإشارة إليها ، وتحديد الموقف منها يحتاج لنزاهة، خصوصاً عندما يكون المعني بالأمر أيا كان- أي صاحب الرأي- موجود على ضفة مختلفة عن الضفة التي يقف عليها الرئيس عباس، لكنه محكوم بالنزاهة وبأخلاقياتها في تحديد الموقف....... ويعدد الباحث ثلاثة عناصر تحسب لمقاربة الرئيس عباس، الأول، أنها قد كانت مبكرة في الذهاب لقراءة عقلانية ما، لواقع كان ملتهباً بالعواطف وبالمشاعر وبالمواقف وبيئة تاريخية كانت تفيض بالخيبة والانكسار والتشتت والضياع والفشل. حيث اشتغلت هذه الأمور بكثافة عند عموم الفلسطينيين في المراحل الأولى للنكبة ، على نحو عطل وشوش القدرة المطلوبة عندهم على النظر المناسب للواقع، واقع لم يكن يكترث أو يتحمل القراءات الباردة الهادئة في حينه، حتى لو كانت ضرورية ومطلوبة، وقد أفضت طريقة التفكير والانفعال التي كانت سائدة عند الفلسطينيين في العقدين الأولين للنكبة ، والتي استمرت بطرق عدة على مدار 40 عاما تلت إلى شتى أنواع الخيبات، ورغم ذلك لم يتعلم الفلسطسنيون الكثير من مأساتهم المتواصلة،وبالتحديد مأساة طريقة تفكيرهم ، وبالتحديد جهة بلورة نمط تفكير عقلاني خلاق مجدي وقابل للتراكم يوظف قوة التعبئة ولا يصبح أسيرا لتهويماتها، عقلانية تستخدم التعبئة لتحقيق الغرض ولا تحولها لمنهجية ، عقلانية تتزود بقوة الفعل المنظم والممأسس والطاقة الإيجابية للخيال، وهذه الحالة لم يعرفها الفلسطينيون في مختلف تجاربهم إلا على نحو متقطع وجزئي وغير مستقر، وبالتالي لم يطوروا نمطاً مستقراً ومجدياً وإيجابياً من التفكير: لا في الحقل السياسي ولا في غيره من الحقول، وكانت لديهم مشكلات عميقة في هذا الصدد حتى هذه اللحظة.... الأمر الثاني الذي يحسب لمقاربة الرئيس عباس هو صمودها رغم لا شعبيتها، وصولاً إلى تقهقر الغالبية من الفلسطينيين: قيادات وفصائل ورأي عام، نحو حيز القراءات العقلانية للواقع، غير أن هذا التقهقر قد كان مشوشاً ومليء بالعيوب والإحباط وانتجه الفشل والإخفاق وعوامل أخرى، ولم يكن نتيجة لنضوج العقل السياسي الجمعي، لذلك واصلوا تقهقرهم إلى حيز مشوه، لقد جاء تقهقرهم على هيئة اندحار في شكل انهيار وليس خياراً ناضجاً واعياً تعلم من التجربة والمعاناة والخيبة كما عرفها الفلسطينيون، خيبة لم تكن تحيل إلى تجاوز أسباباها بل إلى تبريرها، وهذا جزء أصيل من منظومة عادات ذهنية عندهم، لها موروث وأثار ونتائج تبعث على الأسى، كما أن لها صدى مباشر يبدو من خلال تعثر الوعي في إدراك الواقع ومتطلباته وشروط تغيره........... وبدل أن يطور الفلسطينيون ثقافة ايجابية عقلانية في مواجهة تحديات شاملة ذهبوا في منحى خطر هو تطوير ثقافة مبنية على منطق التبرير ، وكما هو معروف فإن التبرير ينتقي عناصر معينه ويهمل عناصر أهم ، ويخفي ويقدم ويؤخر ويتغاضى، وفي النهاية كان ينتج عن ذلك تحايل على حساب الحقيقة، وتحايل على الذات وليس على الواقع أو الخصم، ومن هنا نستطيع استشعار مدى خطورته والأثمان التي تترتب عليه في حياة الجماعة الفلسطينية..... إن بؤس الحاضر أو النتائج التي ترتبت عن خيارات بعينها عند الفلسطينيين لم تفضي بهم إلى تجاوز البؤس " الآن وغداً" بل كان يعيدهم إلى ماضي مُتخيلٍ وموهومٍ أكثر مما هو حقيقة، كي يبحثوا فيه عن لحظة مختلفة ويحولوه كما قال محمود درويش يوماً إلى "سيدٍ للأيام" وهي عادة ذهنية ضارة لم يتخلوا عنها حتى الآن.. وبحسب فرحات فهناك فرق بين تقهقر الوعي واندحاره وبين صعود الوعي نحو إنتاج أنماط تفكير جديد. لقد عرف الفلسطينييون فوضى الوعي والتجريب المُحبط والارتجال غير المجد بصورة مكلفة، وعندما تقهقروا عن ذلك، تجنبوا ملاقاة القراءات العقلانية القائمة وأصحابها، أو تجاوزهم بقراءة أكثر جدارة، أو بلورة خيار عقلاني متوافق أكثر مع مصالحهم، وهذه مسألة نفسية ذهنية بائسة بامتياز، يتشارك فيها قطاع واسع من الفلسطينيين نخبا وعامة ، ومن أفضل النماذج على ما سبق هو الموقف من اتفاق أوسلو، إذ بدل أن يحوله عمل فلسطيني دءوب ، صبور ومتخيل، من اتفاق ملتبس إلى فرضية سياسية ممكنة، مهما كان عليها من ملاحظات. ومن إبن حرام سياسي أنتجته علاقة سفاح بين موازين قوى وقراءات وخلفيات متعددة مضوا في اتجاه مختلف، حول الاتفاق الملتبس إلى مأزق. ومن باب الإنصاف- يقول الباحث- فإن الرئيس عباس المصنف كواقعي من وجهة نظر معينة، والذي ارتبط اسمه بتوقيع اتفاق أوسلو، هو أول من حذر قبل العودة من الخارج، من تعامل الوعي الفلسطيني مع اتفاق أوسلو، وخسارة فرضية تحويله من اتفاق ملتبس إلى رأس جسر يمكن المراكمة عليه على أساس تحويله؛ ومثل هذه الدعوة كانت مهمة في حينه، وهي ما فشل فيه الفلسطينيون لاحقا لأسباب داخلية وأسباب إسرائيلية وغير ذلك . لقد كانت المصلحة ضمن ممكنات السياسة الصعبة تفترض تحويل الدعوة إلى فعل مهما كان المناخ غير موات لها، إلا أن ظروف مختلفة، منها طريقة تعامل الفلسطيني مع اوسلو وجدلهم السلبي حوله،قد أفضى به وبهم ، كي يصبح اتفاق أوسلو، تجربة في التردي والفشل صنعته عوامل كثيرة منها طريق تعاملهم معه.... الأمر الثالث الذي يحسب لها:أن العقلانية تعني في مكان ما تجنب الأثمان الباهضة عند الذهاب إلى تحقيق الاهداف، وفيها دعوة كامنة لمبدا استخلاص العبر والدروس من التجارب من اجل تطوير القدرة والاقتصاد في استخدامها، أما ثقافة التعبئة فتكون مجدية عندما يجري توظفيها في سياق سياسي عقلاني منتج، وتصبح هلاكاً وقطعية مكلفة مع الواقع ومتطلباته عندما تصبح التعبئة هدفا بحد ذاتها،و توهماً وتعويضاً عن النجاح والإنجاز في الواقع ... إلا أن حصيلة التجربة الفلسطينية القاسية كما يتوصل الباحث فرحات ، لم تفضِ بوعيهم إلى بناء خط عمل عقلاني منهجي منظم قادر على التواصل والاستمرار. لقد كان بمقدورهم تطوير ما لديهم من مقاربات عقلانية مهما كانت ونقدها أو إعادة إنتاجها على نحو أعمق أو حتى إبداعها، لكنهم تجنبوا ذلك ولا زالوا يدفعون أثمان كانت الحكمة تقتضي توفيرها أو بذلها في اتجاه صحيح .في هذه المستوى يمكن أن نعثر على ما يمكن تسميته بالبعد المأساوي في نمط التفكير الفلسطيني وقدرة هذه المأساوية على الاستمرار والتواصل واتعبير عن نفسها في كل المستويات . وهذا الأمر مدهش ومثير وعال الكلفة في التاريخ... غير أن أي قراءة مهما كانت واسعة وعميقة وجدلية وعقلانية ستبقى غير مكتملة بصورة مطلقة. كما أن لكل قراءة رواسبها وأحيانا زواياها الحادة التي تمنعها من استيعاب الواقع المعقد والتكيف البناء في التعامل معه، بمرونة وحيوية ، والرواسب قد تكون عيباً بنيويا، وقد تكون مضاعفة جانبية غير مرغوب فيها.... وينطبق هذا المنظور للقراءة بشكل عام على قراءة الرئيس عباس، مع الإشارة إلى أنها نشأت في بيئة غير حاضنة، حيث كان النمط التعبوي بما له وبتبعياته المهلكة هو السائد والمهيمن، توفرت له دائما بيئة حاضنة في كل المراحل، حيث الشعب الفلسطيني لديه استجابة عالية لما هو تعبوي حتى لو توصل إلى نتيجة مهلكة أكثر مما لديه استعدادات لفعل عقلاني ينشغل مع ما هو ممكن.... وبحسب فرحات "فإن العقلانيين في التجربة الفلسطينية أو ما يمكن وصفهم كذلك، منذ تجربة الحزب الشيوعي حتى الرئيس عباس وغيرهم، كانوا يعانون من الطوفان التعبوي من جهة ، ومشغولين بهاجسين: الأول، دفاعي، والثاني، تمثل في التمترس داخل مسحاتهم من جهة أخرى.... في هذا الاطار يمكن القول: لا التعبويين اتجهوا نحو عقلانية مجدية ومتراكمة، ولا العقلانيين اتجهوا نحو تطوير آليات مقاربتهم وتوظيف التعبئة بما يؤدي لترويض عقلاني للجهد والحس الجماعي ، لقد قامت العلاقة بين الطرفين على وجود قطيعة وتوتر وتنافر وشكوك، وعندما تواضعت التعبئة لم تتجه إلى عقلانية بناءة، والعقلانية القديمة قصرت في مكان ما عن توسيع مساحاتها، والانفتاح على أفق الموضوعية الشاسع، خصوصاً بعد أن أصبح أحد رموز العقلانية الرجل الأول في السلطة والمنظمة... وفي تقدير الباحث فرحات، فإن الرئيس عباس يواصل المحاولة السياسية العقلانية ، لكن المطلوب منه موضوعياً أكثر مما هو حاصل، ولا يجب حصر العقلانية في المستوى السياسي بل النفاذ بها نحو التربية والتعليم والرآي العام ومجمل عمل السلطة وباقي الهيئات، وتحويلها إلى عملية وورشة عمل متصاعدة تتوسع باستمرار وتخلق تياراً وأنصاراً على نحو منظم ومهيكل، وتتشكل كنقطة تحول في نمط التفكير ، والأهم هو أن تطرح نفسها كثقافة تحكم السياسة والتربية والإعلام والاقتصاد والعمل العام، وكنموذج تفكير جديد أصيل عضوي وعميق متراكم ومتصاعد في كل الصعد والمستويات اللازمة، وهذا الأمر لا زال تحدياً كبيراً لم يندرج فيه الفلسطينيون كما يجب. ولأن الجماعة الفلسطينية هي جماعة قيد التأسيس الصعب والمتعثر، لذلك تحتاج لبذل جهود استثنائية متواصلة وحيوية في خيارات مطلوبة كهذه. وفي تصور الباحث فرحات واستنادا لتعريف عناصر القوة بالمعنى الكلاسيكي، فإن الرئيس عباس لا يملك من هذه العناصر الكثير، فهو يرأس وضعاً صعبا ومحيرا : حيث لا أرض لدولته ، ولا اقتصاد قوى، ولا موارد، ولا سيادة تمكنه من التحكم في الجغرافيا ، ولا إمكانياتها ولا صواريخ ولا تكنولوجيا متقدمة، ورغم ذلك، فأنه من أهم قادة الشرق الأوسط واللاعبين فيه، بحكم الملف الذي يمثله ويحمله لأنه الملف الأهم أخلاقيا وسياسياً ورمزياً في المنطقة والعالم. وهذا الوضع يعتبر فريداً ويرتبط حصراً بفلسطين ومكانتها وفرادتها من الأرض حتى السماء وفي الجغرافيا والتاريخ عند المعنيين بها كما عند خصومها كل من زاوية النظر التي تهمه... وحسب وصف الباحث فإن الرئيس عباس في المرحلة الحالية يقيم في أصعب وأخطر خطوط التماس المتناثرة في خارطة المنطقة والإقليم والعالم، على نحو بالغ التعقيد. خطوط تماس تتضمن كل المخاطر المتخيلة وكل الفرص غير المسبوقة أيضاً. وهذا الوضع لا يتضمن أي هامش من حرية المناورة، ولا يتسع لأي مساحة لارتكاب الأخطاء... وفي الأعوام السبعة الأخيرة المتزامنة مع ما تشهده المنطقة العربية من أحداث وتحولات ومتغيرات، كان لعقلانية الرجل دوراً مهما في تحديد موقف متزن ومسؤول في أغلب الملفات الملتهبة التي يشهدها الإقليم، مثل الملف السوري وتداعياته الاستراتيجية، حيث وحدة سوريا إقليماً وشعباً ودولة أساسية في رؤيته، وهو يعرف جيداً معنى استقرار العراق، ويدرك معنى عودة مصر إلى نفسها وإلى أدوراها المتوقعة وحاجة مصر والمنطقة وفلسطين ذاتها لمثل هذه العودة...... وفي ملف السياسة الأمريكية في المنطقة ربما يكون من أكثر الأشخاص الذين يعرفون قوة الولايات المتحدة الأمريكية وقدرتها على الضغط وله تجربة في ذلك ولكنه يعلم على نحو عميق الضعف المتنامي في قوة أمريكا على الفرض، ويراقب من موقعه ويستفيد بدون صخب من عمل المرواح الإقليمية والدولية التي تتولى تهذيب توجهات الولايات المتحدة الأمريكية وتشذيب نفوذها بنعومة قاسية........ كما يعرف روسيا وموقفها العميق اتجاه قضية فلسطين وملفات المنطقة، ويثق بالصين ويحاول جذب الدول المهمة في أوروبا خصوصا فرنسا وألمانيا نحو رؤية مسئولة تحقق مصالحهم وحقوق الآخرين بدون أوزار السياسات الخاطئة........ أما في ملف الصراع مع إسرائيل فهو الملف الأصعب، سواء كان الخيار تسوية سلمية أم مقاومة متطاولة. وفي هذا الملف لم يحقق الرئيس عباس خرقاً بسبب من غباء القوة عند إسرائيل، وغياب البصر والبصيرة الإستراتيجية اللذان يتحكمان بها،. وأظنه حاليا يعيش مرحلة من استخلاص العبر والدروس في هذا الشأن، تشير إليها بوضوح خطواته وخياراته في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث يتجه إلى تحقيق مناعة سياسية تستخدم ما توفر من إمكانيات لإدانة إسرائيل كدولة احتلال سياسياً وأخلاقيا، وتعرية مؤيديها بنعومة وهدوء، ويبدي يقظة كافية تجاه التحايل الغربي الإسرائيلي الذي يحاول بيع الفلسطينيين وهم تسوية في لحظة اعتراضية من طرفهم تحاول استيعاب متغيرات المنطقة من جهة ورفع الموضوع الفلسطيني من ملفات الصراع المحتدم في المنطقة..... أما السبب الثاني فيتمثل في الوضع الداخلي الفلسطيني وما يعرفه من سوء استخدام للإمكانيات المتوفرة، وهو سوء استخدام متراكم تاريخيا ، ومن ضعف في الخيال واليات التفكير الايجابي في الأداء الفلسطيني، ومن الصراع الغريزي بين قواه المتخالفة الذي عّبر عن نفسه بصورة فادحة بالانقسام، ومن ترهل في الخطابات والهياكل السياسية الفلسطينية عموما، يرافقه هشاشة في القدرة التنظيمية للمجتمع الأهلي، الذي ظل قادرا على إنتاج وصياغة مبادرات محلية وجزئية وظرفية، لكنها ظلت بدون أفق استراتيجي أو التشكل كنقطة تحول. إجمالا هناك عجز بنيوي في المقاربة الفلسطينية والوعي الذي تبلوره عموما، ويتجلى هذا الأمر في كل شأن تقريبا. إجمالا،يرى فرحات بان الوضع الداخلي الفلسطيني معقد على الطريقة الفلسطينية: قلة هدى، وغياب للرشد السياسي الذي يتحكم بمنظومة العلاقات الفلسطينية الداخلية، وقد تشكلت رواسب ثقيلة من الكراهية النفسية والإيديولوجية بين القوى الأساسية والثانوية الفلسطينية، أفسدت السياسة بمعناها المناسب، الصحيح، السليم، اللازم والضروري، وهناك عجز يلف مختلف القوى الفلسطينية عن ملاقاة المتطلبات بصورة مناسبة أو بلورة بدائل . وهناك ضعف بنيوي فلسطيني أهلي في إنتاج فاعلين سياسيين واجتماعيين جدد يساعدون على تجاوز المشهد... والرئيس عباس يواصل- وسط صعوبات معقدة- محاولته إعادة إنتاج المشهد السياسي، في زمن تبدو فيهإعادة إنتاج الشرعية والحكم، وبناء منظومة عمل سياسي تثمن المشترك وتنظم الخلاف، تستند لأصول متفق عليها تحكم العلاقات السياسية الفلسطينية، وإعطاء أهمية كبيرة للشأن الداخلي من ابسط مستوياته حتى أكثر تركيبا، امورا لازمة وضرورية للتعزيز إمكانية ترتيب المشهد من جهة، وتدعيم إمكانيات الصمود من جهة أخرى... وعن كيفية تعاط الرئيس عباس مع المحاور القائمة في المنطقة يرى الباحث ، بأنه لا يلعب لعبة المحاور بصورة واضحة ، أنه يستند في المواقف الأساسية لاعتبارات جوهرية موجودة في رؤيته، وفي مساحات أخرى يوظف تصادم المحاور في سياق ما يراه مناسباً لمصلحة شعبه، وبسبب ارتباط القراءة العقلانية عنده بقيم أساسية معينة فقد تصرف بتوازن ملحوظ في الملفات الملتهبة .. لكنه يعي –دون شك- لعبة المحاور بقوة، ورغم أنه محسوب على محور الاعتدال العربي فإن أغلب مواقفه الأساسية لا يتشارك فيها مع هذا المحور ويحتفظ بهامش مهم من التباين والاختلاف معه ، في نفس الوقت فهو لا يتحدث مع المحور الآخر، محور الممانعة ، لكنه يستفيد منه بدون أن يتحدث معه أو ينسق معه المواقف والسياسات. من جهة أخرى هو محسوب على خط التسوية السلمية، لكنه يدعو إلى المقاومة الشعبية والممانعة السياسية، يعرف القوى الوازنة في الإقليم وتوجهاتها، ويعرف معنى وثقل روسيا الحالي والقادم ويدرك رهانات الصين البعيدة والقريبة، وعنده صورة كافية عن الأفق الصعب إمام استمرار الهيمنة الغربية على المنطقة، ويرصد غباء خيارات إسرائيل وغطرستها معا... باختصار في النظرة البعيدة أو الاستراتيجية يشخص الرئيس محمود عباس معنى فلسطين ومصلحتها وليس معنى الفلسطينيين والزوايا الضيقة التي تتحكم في اغلبهم، وفي كل لحظات الضغط الحرجة يعود للبحث عن القوة في معنى فلسطين، وهذا فيه قوة وحماية وسلامة في البصيرة، حتى لو كان البصر السياسي للبعض يرى في حدود ما هو مباشر. وفي خطابة الأخير أمام الأمم المتحدة قال أهم خطاب سياسي فلسطيني يصدر منذ ثلاثة عقود على الأقل... هنا يجب العودة بحسب فرحات لتأكيد القول بأن لكل دعوة "جبل احد" يخصها ، وفلسطين دعوة مكتملة بحد ذاتها، وعلى مدار السنوات الأخيرة الصعبة يمكن أن يلاحظ المعنيون، بان الرئيس عباس يقف فوق "جبل احد سياسي " وهو ليس في وارد النزول عنه في هذا الظرف بالذات، رغم أن "حيلة" سياسية كبرى أمريكية إسرائيلية إقليمية يجري صياغتها حاليا لإنزاله من هناك. والضغط عليه للذهاب في مسارٍ مُلتبسٍ ومُتعبٍ، وهو كغيره من قادة الإقليم والعالم يحاول تقطيع الزمن في انتظار نضوج المعادلات وترسيمها في الإقليم والعالم، ويدرك جيدا بأن فلسطين كقضية توجد في صلب وصميم الاستراتيجيات المتصارعة في المنطقة وعليها ، كل وفق منطقها. لكن بكل الأحوال يمكن النظر إلى الرئيس عباس وفقا للمعادلة التالية: ليس لدية معادلة القوة لفرض ما تتطلبه مصلحة شعبه وعواطفه لكنه يملك دون أدنى شك القدرة على تعطيل أي حل لا يستجيب لمصالح شعبه وعواطفه. وفي السياسة هذا أمر بالغ الأهمية. لذلك فإن البقاء فوق جبل أحد السياسي ،هو أهم ما لدى الفلسطينيين، مدعما بعوامل الصمود الجماعي واستمراره. وبشأن المطلوب من الرئيس عباس في اللحظة الراهنة يقول فرحات " بعض الروايات أو المجازات لا تضر، الرئيس محمود عباس يعرف تونس جيداً وعاش عقداً من العمر فيها، لكنه بحكم ظروف معينة فربما لا يعرف عن خط الباص 28... وخط الباص 28 معروف جداً في تونس، والمهندس الذي صممه هو بالتأكيد عبقري، إذ أن خط الباص 28 يمر بصورة دائرية حول المدينة مع تورطات محسوبة في أطرافها، بصورة توصل ركابه إلى أغلب مؤسسات الحكومة والشركات والمدارس والجامعات والمستشفيات والحدائق العامة وغيرها...وأغلب التونسيين من العاصمة أو من خارجها يستخدمون خط الباص 28، لذلك فأن كل محطات توقف الباص غالباً ما تكون مزدحمة بالركاب المنتظرين ... أيام كنا طلاباً في الجامعة التونسية، كان لنا تجربة في خط الباص 28، وبحكم خبرة بسيطة لاحظنا بأن الناس تزدحم للصعود إلى الباص، الجميع يريدون الصعود لقضاء حاجاتهم فيما طاقة الباص محدودة، وهو ممتلئ أصلا.... صنفين من الناس كانا يتمكنان من الصعود إلى الباص ويحظيان بأفضل الفرص، الأول، أولئك اللذين يبذلون طاقة عالية في المزاحمة إلى حد الإضرار بالآخرين، والصنف الآخر كانوا من أصحاب الحظوظ الطيبة في اختيار مكان انتظار الباص، ولم يكونوا يزاحمون بل كان فائض قوة المتزاحمين تدفعهم عموماً إلى داخل الباص.... الفلسطينيون يحتاجون بقوة إلى ما يمكن وصفه "بإستراتيجية الباص 28" التي تتطلب منهم التمسك بالهدف واليقظة والبحث عن الخط المناسب وحسن اختيار الموقع أو الموقف، واستخدام قوة الدفع التي في الإقليم والعالم بما يجنبهم، أولاً، أن يكونوا ضحايا أو مخدوعين، وبما يمكنهم ثانياً من الصعود إلى حيث يجب، وهذا يتطلب أن يعرفوا أين يقفون، وكيف يقفون، ويتطلب حاسة سياسية عقلانية لها صلة بخيال مناسب. إن "باص" الاحتمالات والممكنات والتوقعات والفرص الصعبة في المنطقة والإقليم يتحرك وسط هزات وزلازل وتصدعات ومعارك، وليس لديه وقت أو متسع أو هوامش.. والرئيس عباس قريب كثيرا من إستراتيجية الباص 28 ، خصوصاً في السنوات الثلاثة الأخيرة، لكن توجد عنده مشاكل في الحمولة الداخلية، ومشاكل تعرقل بناء شراكة وطنية على الرؤية والأهداف والآليات بين القوى المعنية . حيث ثمة خلافات حول الرحلة والمسار والوسائل والرهانات، ومعضلات في قدرة القوى الفلسطينية على تحقيق انتظام سياسي ناضج ومفيد ومجدي، وما حصل مؤخرا في ملف المصالحة الفلسطينية جيد من الناحية العاطفية والنفسية ، لكن السياقات التي جاءت فيها المصالحة والخلفيات المحركة لأطراف إقليمية ودولية بعينها هو حمال لأوجه سياسية مريبة. ومن المهم في هذا الصدد منع حصول تعارض بين الجانب العاطفي للمصالحة والجانب السياسي من زاوية المصالح والعواطف الفلسطينية، حيث تراهن أطراف إقليمية وأمريكا وإسرائيل على جّر الوضع الفلسطيني خارج نطاق مدار مصالحه وعواطفه معا. واستخدام مناوره مركبة تحت مسميات جاذبه " كصفقة القرن" لسحب الملف الفلسطيني من التداول عشية الترسيمات الكبرى لأوضاع الإقليم وملفاته. والرئيس عباس يقظ إزاء هذه المسالة. وبشأن خصائص معينة عند الرئيس عباس يرى الباحث محمد فرحات بان الرئيس هو شخص مركب ، ومن زاوية ما يمكن القول بأن من الأشياء التي يكرهها:النفاق، ورغم انه قد يبدي صبرا في تحمله لكنه لا يطيقه في أعماقه،خصوصا عندما يأتي ممن يصنفون أنفسهم بأنهم من مؤيديه وأنصاره، وبالذات عندما يكون هذا النفاق فجا وسطحيا وتعبيرا عن عجز في الحيلة والقدرة والخيال ويكون نفاق غير مهني ومُتعب ، بخلاف النفاق المهني المرموق، صحيح انه نفاق مرفوض هو الأخر في العمق ، لكن رفضه يتم بقدر معين من الاعتراف بالكفاءة على الأقل..ومن جهة أخرى فإنه يكره معارضة تقوم على أساس قيم :اللؤم والنكاية والكيد والانتهازية، أكانت قصيرة المدى والنّفس أم عميقة ومركبة ، ولديه من الصنفين الكثير... ويعتقد الباحث محمد فرحات، بأن الرئيس عباس يفضل التقاطع النقدي الأصيل مع رؤيته، وهذا بحد ذاته حاجة ماسة ومفيدة ، وما ينتج عن هذا التقاطع يحظى باحترامه واعترافه حتى وهو لا يحب الشخص أو الطرف السياسي الذي يمارس ذلك، والإفترض بأنه يفضل أن يضعه الآخرين في حيز الاحترام المتبادل على حيز المودات والمحبات ، لان الاحترام ينتجه عقل له عواطف وخيال ، أما الحب والكره فتنتجه عواطف ومشاعر غالبا ما تتجاوز العقل وخيراته وجماله، وهي مشاعر عرضة للصعود والهبوط بعكس إمكانيات الاستقرار التي تتوفر للاحترام. وبحسب الباحث فرحات فإن أهم شيء يمكن غبطة الرئيس عباس عليه، هو انه رئيس لفلسطين، أي رئيس لفكرة ومعنى ومجال خاص وفريد في الأرض وفي التاريخ. وما عدا ذلك، فقد لا يندرج في باب الغنيمة بمقدار ما يندرج في باب المتاعب، أما مقاربته العقلانية فإنها تواجه أهم اختبارتها على الإطلاق داخليا وخارجيا وسط ظروف صعبة وحادة. |