|
في تونس الخضراء
نشر بتاريخ: 06/05/2018 ( آخر تحديث: 06/05/2018 الساعة: 10:49 )
الكاتب: تحسين يقين
"تونس أيا خضرة يا حارقة الأكباد
غزلانك البيضة تصعب على الصياد غزلان في المرسى ولا في حلق الواد على الشطوط تعوم ما تخاف صيد المي.." لا تكاد تذكر تونس، إلا ونذكر أغنية فريد الأطرش "بساط الريح" وهي كلمات بيرم التونسي، من فيلم آخر كذبة الذي ظهر عام 1949؛ فكيف تكون خضراء وحارقة الأكباد في آن واحد؟ هل يعود ذلك أنها كانت تحرق أكباد المستعمرين الذي لم يهنئوا بها خصوصا ان الاستقلال جاء بعد 7 سنوات على ظهور الأغنية؟ أم أن لذلك علاقة بما جاء من كلمات الغزل؟ كتب هذه الأغنية الشاعر الغنائي الكبير بيرم التونسي، ابن تونس الذي عاش في مصر، وصاحب الفنان سيد درويش.. كان بيرم قد مهد للمقطع الشهير، بقوله: بساط الريح يا ابو الجناحين مراكش فين وتونس فين بلاد الحوت، والغلة والزيتون فيها الشفايف قوت، وللشراب عيون ياللي عليها تفوت، اشبع طعام وشراب ولا تزيد يا خي.." هنا يطلقون على السمك كلمة الحوت، الذي لدى المشرقيين له دلالة حوت البحر الكبير، اما الزيتون فمتواجد بأصناف متعددة لذيذة. لكن بيرم ربط الطعام بطعام آخر: هو قوت للشفتين، وشراب للعيون..وقد صدق. كنا نتعلم جغرافية تلك البلاد وتاريخها، فعلق في ذهن الفتى ما علق من معلومات حول الموقع والعاصمة والسكان، والحياة فيها، بما يتضمن الثروات الطبيعية والتجارة وغير ذلك. تعود بي رحلاتي وما تيسر من سفر، إلى طفولتي، حيث المصادر الأولى لتعرفنا على البلاد: كتب التاريخ والجغرافيا، ثم لتكون ما تيسر من مجلات، وتلفزيون فيما بعد، الذي صار يرينا تلك البلاد. غابت الدهشة لتسمية العاصمة باسم القطر، بعد تكرار التسمية في بلاد أخرى كالجارة الجزائر، لكنني سأتساءل بعد سنوات طويلة عن الاسم، فأسال صحفيا تونسيا التقيته لدقائق في مطار قرطاج، إذا كانت تونس مشتقة من الإيناس، فلا ينفي ذلك، من باب كون الزائر لتونس يأتي بعد رحلة الصحراء. الآن أصافحها بمعلومات الطفولة والشباب وما قد دخل من سنوات الوعي، ونحن نعبر الخمسين، أما هي فتصافحني بما هو أكثر وأعمق. سأهبط أرض "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"، وسأصحو على النشيد الوطني المحبب لنا، من قصيدة إرادة الحياة. سأذكر ذلك طفلا ففتى فمعلما أيضا. انها خلود الروائع. سأمشي متلفتا باحثا عن فتى فيلم "عصفور السطح" أو الحلفاويين، من إنتاج سنة 1990 وهو أول فيلم روائي طويل للمخرج فريد بوغدير. دارت أحداث الفيلم في حي الحلفاويين الشعبي والعتيق، حيث يعيش نور بطل الفيلم فترة ما قبل المراهقة. يبرز الفيلم الواقع الاجتماعي عبر اكتشافات نور من خلال أبناء حيه، أمه وقريباته، والده وبيئاته الاجتماعية. لقد حقق الفيلم نجاحا جماهيريا كبيرا وحصد عدة جوائز دولية في أمريكا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا ومصر...وأظنه فعل ما فعل بسبب اللغة السينمائية المتقنة، والجرأة في المضمون. لقد عدت قبل سنوات إلى مشاهدة الفيلم أكثر من مرة لأسباب متعددة، آخرها كان بعد الثورة، لكن للأسف لم يكن الصوت واضحا كما ينبغي لسماع النص، لكنه يفي لقراءة التاريخ السياسي الحديث والمعاصر ليس لتونس فقط بل لبلادنا. لقد تأثرت بشكل خاص بأحد الأشخاص الذي يلعب الشراب برأسه، فيكسبه جرأة، فيكتب على الجدار هاتفا لتونس، مستبدلا ب"عاش الزعيم" بعاشت تونس وهو، أي الشعب؛ فكيف لا يحضر الفيلم مع الثورة التي كان الأخضر فيها المتمازج مع الأبيض هو سر عبقريتها. لقد استحقت فعلا "ثورة الياسمين"، فهو هنا يحضر زهرا في بلاد المتوسط، ويحضر معنى ثقافيا واجتماعيا يدل على وعي عميق، وعي شعبي لا يقتصر على النخبة. سأعود إلى الفينيقيين التجار أحفاد الكنعانيين الفلسطينيين المزارعين، الذين بنوا هنا حضارة هنا، وكيف على أرض تونس التقت حضارات الشرق والغرب، فكان هذا التميّز قديما وحديثا. تشتهر تونس ليس بالزيتون فقط، بل المسرح، الذي يعد مألوفا هنا، يشاهده الناس وغير مقتصر على النخبة، ولعل مهرجان قرطاج المسرحي هو من أهم المهرجانات الدولية مسرحيا. لذلك ليس من الغريب أن يتأسس مهرجان خاص بالمونودراما، إنها الدورة الأولى التي تبشّر بتطوير هذا الفن العظيم. كل ما فيها أبيض البيوت، والقلوب، والابتسامات، العراقة تتجول معنا، والغنى الثقافي أيضا، مسرح وسينما وكتاب وموسيقى وغناء، أما الثروة المعمارية فهي التي تضيف السحر في فضاء المدينة وفي المباني التاريخية؛ فما معنى أن تشرب القهوة في مبنى عمره 800 عام، ظل حيا حتى الآن غير عمق الحضارة! سنقرأ الصحف، التي تحفل بالانتخابات، غير أن ما يلفت النظر أيضا، هو أن هذا البلد الجميل بالرغم من الحرية السياسية كنتيجة ديمقراطية، فما زال في مرحلة تحوّل، وبحث وتقييم ونقد ذاتي. وجميل هنا نضج البشر في طريقة التعامل مع التاريخ السياسي المعاصر، إنه نضج متقدم، راق له دلالات لعل من بينها ما هو إيجابي فيما مضى، حيث لا يقوم اليوم على نفي الأمس بشكل مطلق. هي مصافحة سريعة لبلد اشتقنا له طويلا، لكن لعل هناك من يصف ويحلل ويستشرف المستقبل الأجمل هنا، حيث أنه بالرغم ما علق بمرحلة ما بعد الاستقلال من سلبيات، إلا أن التجربة التونسية بحاجة لمنصف في تأريخها واستخلاص العبر في الإدارة والحكم، وربط ذلك اجتماعيا. ثمة دلالات في الفضاء العام سياسيا واجتماعيا، بل لعل ما هو اجتماعي أكثر عمقا، وهو ما أسس وما زال يؤسس لما هو سياسي. سنختلف كثيرا حسب منطلقاتنا، لكن لو نتمهل قليلا، فسنجد أنه لدى أشقائنا التونسيين ما ينقلونه ويبشرون به عربيا وعالميا، وهي الآن وغدا فرصتهم لنقل التجربة عربيا بشكل خاص؛ في ظل أهمية الربط سياسيا بما هو اجتماعي في علاقات البشر هنا، فإذا كان هناك علاقة دوما بين الموسيقى والحضارة، فإن وضع المرأة بشكل خاص هو الحضارة في أهم جوانبها. إنه التأسيس الثقافي والاجتماعي، الذي يضمن السلم الاجتماعي حتى لو تعرضت البلاد لأزمات سياسية، حيث يصير الوعي محصنا للشعب، وداعما له؛ ولعل الاستمرار في البناء الثقافي هو ركيزة الاستقرار في ظل أي اختلافات، فكانت مدينة الثقافة تجليا لهذا الوعي الذي حفظ البلاد من التطرف والفوضى. وهنا يقبل الشعب على النشاطات الثقافية من مهرجانات فنية وأدبية، فلمسرح عشاقه واهتمام الأسر به حيث مهرجان المونودراما الدولي الذي يضيف خصوصية لهذا الفن، وللرواية بيتها التي تنظم ملتقى تونس للرواية العربية، وللموسيقى مكان، لذلك ثمة علاقة ورابط بين النظام في الشارع وبين الذائقة الفنية والثقافية. الآن صارت تونس الحبيبة وجه الأصدقاء هنا، وجها ثقافيا يثير التفكير نحو الملاحظة الدقيقة للاقتداء والتطوير، فمن كانت لديه إرادة للارتقاء فإنه يرتقي. في تونس الجميلة، مجال رحب للتفكير الهادئ والعقلاني، لجعل الأوطان أماكن أثيرة لجذب الإنسان للبقاء والإبداع والحب..هي دعوة لقراءة ما غنى فريد الأطرش من كلمات بيرم التونسي ابن تونس والعالم العربي: "تونس أيا خضرة يا حارقة الأكباد غزلانك البيضة تصعب على الصياد غزلان في المرسى ولا في حلق الواد على الشطوط تعوم ما تخاف صيد المي.." لقد حرق اخضرار القلوب والعقول أكباد من يتربص بها سوءا..فليس هناك ما يخيف ما دمنا محصنين بوعينا؛ هي العبقرية إذن فعلا، هو الياسمين، والقرنفل والوجوه الجميلة والثقافة والفن. [email protected] |