وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

أن يصبح الانتحار أمراً مقبولاً لدى الجميع!

نشر بتاريخ: 29/05/2018 ( آخر تحديث: 29/05/2018 الساعة: 18:05 )
أن يصبح الانتحار أمراً مقبولاً لدى الجميع!
الكاتب: ناصر دمج
يحتفظ التاريخ بالعديد من النماذج التي تحاكي عنوان هذه المقالة، ومنها: أسطورةِ قلعة مِتسادا اليهوديّة التي تحصّنَ فيها أكثرُ من ألفِ يهوديٍّ بعد محاصرةِ الرّومان لهم في عام 70ق.م، وقتلوا أنفسهم قبل اقتحام القلعة من قبل الجيش الروماني المُحاصر، لتلاشي إمكانيّاتهم في الدّفاعِ عن أنفُسِهم، وقيام "جوزيف غوبلر" وزير الدعاية في عهد هتلر وزوجته بقتل أبناءهم الستة داخل المخدع السري للفوهرر قبيل اجتياح برلين من قبل الحلفاء، وإنتحار الجنرال "فيلهلم بورغدوف" و زميله "هانز كريبس" فيما عرف بأكبر النهايات التراجيدية الأكثر حزناً على مر التاريخ .

غزة تصنع اسطورتها الخاصة
بِتتبع الأهوال الناتجة عن حِصار سُكان قطاع غزة، الذي يُضاهي حصّار الإغريق لطروادة، يمكن ملاحظة الخيط السميك الذي يَربط خلفيات التفكير بالخلاص من قبل المحاصرين في غزة ومن قبل أبطال النموذجين المذكورين في هذه العجالة، لأن أفكار الجميع انطلقت من الاعتقاد المُكتمل بأن الموت أفضل من الحياة ضمن شروطها التي تحيط بهم من جهاتهم الأربعة، ضمن لحَظة وجودية هي الأخطر في حياة الإنسان، وهي تخليه عن حياته مقابل الفوز بالفرار من جحيمها الذي تجاوز حدود المعقول، وهذا أقصى ما يريده الآن.

غزة تبتكر البديل المُشرف للانتحار
يُمكن اعتبار قرّار الناس المُحاصرين في غزة الخرّوج لمُواجهة جيش الاحتلال الإسرّائيلي المُدجج بالسلاح، بصدورّهم العارّية شكل من أشكال الانتحار بمعناه المادي للمفهوم، بدلالة الكم الكَبير والهائل للشهداء والجرحى، ومن ثم مُواصلتهم لذلك عبر الحُدود وأخيراً امتطاء البحر للغاية نفسها.

المنبع العميق والخطر للفكرة
يُمكن اعتبار العجزَ البُيولوجي عارضاً يُصيب الكائن الحي، سواء كان إنسانَاً أو حيواناً، منبعه ورافده الرئيس، إحساسه التام بضعفه الشدّيد أمام بطش المعتدي وتعسفه، والفَشل في التصدي للمَخاطرِ الخارجيّةِ، التي تسلبه مقومات الحياة كالغذاء والماء والكساء.

إنَّ إحساسَ الكائنِ الحيّ، حيوان كانَ أمْ إنسان، بِالعجزِ عَن القيّامِ بِوظيفتِهِ البُيولوجيّة الفِطريّة تِجاه نفسِه وَتِجاه الآخرين بِمن فيهم أبناؤه أو رعيّته أو القطيعُ الّذِي يَنتمي إليّهِ تَدفعُه إلى القيامِ بِخطواتٍ فِي مُنتهى الغرابةِ، ومنها تعاظم استعداده للقتل أو الانتحار. وهو تحول ناتج عَنْ اسِتفحالِ مُستويين مِنَ العجزِ الذاتيّ لَديهما، الأول: الإحساسُ بِالعجزِ عَن حِمايةِ نفسِه أو توفير الغذاء الذي يلزمه ويلزم أبناؤه، الثاني: عجزه التام عَن التصدي للمخاطر الوافدة من المستقبل.

إنّ ردةَ الفعلِ التلقائية لهذا الكائنِ، هي التفكيرُ في الخلاصِ من أسبابِ هذه الحالة، وتتمثّل هنا بالكائنِ الحيّ نفسِه، كونه سببُ المشكلةِ، فلو لم يكُن موجوداً لما كان هناك مشكلةٌ، ولو ماتَ لانتهتِ المشكلةُ أيضاً، من هنا تنشأ جديلةُ الخلاصِ بالانتحار، أو الاستمرار المذلّ في حياةٍ مُهينةٍ بالنّسبة للإنسان، ومُرهقة وشاقّة للحيوان.

إشكالية هذا التفكير تنبع من تحوله لفكرة عامة، في أحد أطوار الأزمة التي يكابد يومياتها، وبدء تقبل فكرة الانتحار من أفراد المجتمع تحت وطأة النوائب الاجتماعية والاقتصادية وتعاظم المخاطر الخارجية، فتنمو في أذهان الأباء رغبة التخلص من أبناءهم بغرض حمايتهم، ولأن المسلمين يرفضون الانتحار كعمل منافي لصحيح الدين، فإنه تم ابتكار عشرات الأفكار التي تجعل من الانتحار عملاً بطولياً، جميعها تتمحور حول الموت خلال قتال العدو؛ والفوز بالشهادة بدلاً من الانتحار الأثم.

بِهذه الطريقة أو بغيرّها، تواصل منابع المشكلة غليانها فوق مراجل الحصار الظالم، والمنع الإجرامي لحصول المحاصرين على كفايتهم من الماء والغذاء والكساء.

عليه يمكن التّأكد من أن العجز، هو حالةٌ غريزيةٌ منبعها الخوف، وهو بمثابة الأب الشرعي للعجز الذي يصيبُ الأفرادَ والجماعاتِ مجتمعين ومنفردين، وقد يتحوّل هذا الأمر إلى إشكاليّةٍ جماعيّةٍ مجتمعيّةٍ مستعصيةٍ، عندها يفقد الجميعُ القدرةَ على رؤيةِ الخطوطِ الفاصلة بين الصّواب والخطأ.

خلاصة ذلك تقود إلى الاقتناع التام بأن الخلاصِ الانتحاريّ المُشرِّف، الذي ينطوي على بطولةٍ ما أفضل من البقاء والعيش المذل، يحدث ذلك بعد أن يقوم رواد المجتمع بالتبشير لهذا الاستنتاج الذي سرّعان ما يتحول لرؤى وبرامج وعقيدةٍ عمل، مهما قيل يبدو أن غزة قطعت شوطاً طويلاً في مضمار تميزها التاريخي كحركة مقاومة سلمية لم يعرف التاريخ مثيلاً لها.


(*) باحث ومؤرخ فلسطين