|
المحطة الاخيرة قبل الانتقال الى الموت
نشر بتاريخ: 02/06/2018 ( آخر تحديث: 02/06/2018 الساعة: 13:56 )
الكاتب: عيسى قراقع
سجن مستشفى الرملة الاسرائيلي، يسمونه مستشفى وهو أسوأ من السجن، ممر ضيق معزول يفتقد لكل مقومات المستشفى شكلا ومضمونا، يزج به الحالات الخطيرة من الاسرى المرضى وهو المحطة الاخيرة من الحياة قبل الانتقال الى الموت كما شبهه أحد الاسرى.
يتسع مستشفى الرملة الى ما يقارب 25 اسيرا مريضا يكتظون في غرفه المحشورة، لا مجال لحركة الاسرى المقعدين وعرباتهم المتحركة، لا مجال لاستخدام المرحاض بشكل إنساني او الاستحمام، رائحة انفاس مخنوقة وادوية وجروح مفتوحة وآلام وصراخ تملأ المكان. الاسرى المرضى في مستشفى الرملة الاسرائيلي يتهيأون نفسيا وجسديا للموت، وفي مرحلة معينة اشتروا على حسابهم أكفانا سوداء، يتطلعون الى بعضهم البعض تطلعات الوداع، يشيعون بعضهم في ظل غياب المشيعين والمصير المجهول الذي ينتظرهم بعد ان تزهق الارواح. الاسرى المرضى في حالة عزاء ذاتي متواصل لأنفسهم، وربما يستطيعون ان يقدروا الساعات او الايام او السنين الباقية لكل واحد منهم، يكتبون رسائل كثيرة ووصايا، يراقبون شاشة التلفاز او يستمعون للراديو لعل احدهم يذكرهم بأسمائهم ، ويجنحون بخيالاتهم ليس عن الحياة وإنما عن شكل القبر ومكانه وعدد الاشجار او الزهور التي يطلبون زراعتها حول أضرحتهم. لم يصل أحد الى مستشفى الرملة الاسرائيلي لمراقبة واقع المستشفى الوحيد التابع لمصلحة سجون الاحتلال، ولم تأت لجان دولية او لجان تقصي حقائق لمعرفة مدى تقديم حكومة اسرائيل العلاجات اللازمة للأسرى المرضى أو للتحقيق في معرفة أسباب الموت المتواصل في صفوفهم. اسلاك طبية وبرابيش وأجساد مرتجفة تجدها في المستشفى ، مشلولين ومصابين بالصرع وامراض السرطان والامراض العقلية، أكياس البول تتدلى من بطونهم، رائحة موت ليس كالموت ، أجسام مخدرة بالمسكنات، تنام طوال اليوم لتتغلب على أوجاعها، عكازات ترتكز على الحائط أو قرب السرير، صور أولادهم معلقة على الابراش، احلام الميتين مختلفة عن أحلام الاحياء، هواجسهم لا تخرج من الباب ولا تتلقفها السماء. الاسير منصور موقدة المكور البطن، الممزق جسده بالرصاص، يحمل أكياس البول، بطنه مفتوح ترى ما بداخله، يجلس قرب الاسير المشلول خالد الشاويش، لا يملكان سوى الصمت الطويل كوسيلة للعزاء. الاسير يوسف نواجعة المصاب بالرصاص والذي يتحرك على العكازات، يعاني سلسلة طويلة من الامراض ، الصرع والقلب والنخاع الشوكي ، فقد التوازن خلال وجوده بالحمام، سقط على الارض، يعاني من الارهاق المستمر يمد يديه فلا يجد احدا يساعده او يعطيه الدواء. الاسيرة اسراء جعابيص لازالت تقشر حروقها، تبحث عن حنجرتها ووجهها ويديها، تنادي على ولدها كلما أطل الفجر ليوقظ اشلائها ويحركها على جسد الفضاء. الاسير اشرف ابو الهدى المصاب بالرصاص، يتعرض لمماطلة طويلة لسحب الماء من رئتيه، جسمه اصيب بانتفاخات ولا يستطيع النوم بسبب شدة الاوجاع في ظهره وقدميه، مواعيد الفحوصات مؤجلة، الاطباء يدخلون ويخرجون لا يطيقون المشهد، يخلعون زيهم الابيض ويحملون المفاتيح وينتظرون خلف الابواب سكوت صراخ المرضى الى الابد. الاسير ياسر ربايعة يتلقى العلاج الكيماوي بسبب ورم على الكبد، والاسير رجائي عبد القادر يتلقى العلاج الكيماوي بسبب سرطان في الرئة، والاسير فؤاد الشوبكي يتلقى العلاج الكيماوي بسبب سرطان في المثانة، والاسير معتصم رداد يتلقى العلاج الكيماوي بسبب اورام في الامعاء، والاسير محمد براش ينتظر ان تزرع له قرنية في العين ويركب له طرف صناعي لقدمه المحطمة، والاسير موسى صوفان يتلقى العلاج بسبب اورام في الرئة، والاسير رياض العمور ينتظر منذ خمس سنوات تركيب جهاز منظم للقلب، والقائمة طويلة ، والاسماء كثيرة، وجميعهم يجلسون في المحطة الاخيرة وفي الوقت الاخير للرحيل. الاسير حسان التميمي لازال في غرفة العناية المكثفة في مستشفى تشعار تصيدق الاسرائيلي بسبب معاناته من مرض الكبد، يتنفس على الاجهزة الطبية، إدارة السجون وأطبائها لم يعطوه العلاج خلال وجوده بالسجن مما ادى الى وصوله الى حالة خطيرة جدا، الكل في قلق وترقب، وفي شهر رمضان تفيض القلوب بالصلاة والدعاء. مستشفى الرملة الاسرائيلي المحطة الاخيرة للانتقال الى الموت ، قبر مفتوح اقامه الاسرائيليون، من يدخله لا يخرج حيا، منذ الشهيد ميخائيل لازارو وعبد المنعم كولك ويوسف العرعير ورمضان البنا، وبشير عويس، وزهير لبادة ومحمد ابو وهدان وجمعة اسماعيل موسى وعمر مسالمة ، جثث متراصة متتالية حتى آخر الشهداء الاسرى الشهيد عزيز عويسات. مستشفى الرملة الاسرائيلي شهد الموت، وشهد بتر اعضاء من الاجسام، الايدي والاقدام، عظام سحقت ودماء نزفت، كما جرى مع الاسير ناهض الاقرع الذي بتروا قدميه، والاسير جلال شراونة الذي بتروا قدمه من الركبة، والاجساد تنقص، وكل أسير مريض يحاول ان يرسم تصورا اجمل لطريقة موته، الجدال محتدم بين الحياة والموت هناك. كنا نصرخ ونحن نيام كنا نضع آلامنا وأحلامنا تحت الجراح لكي نثبت لأنفسنا ان الجميع يردد اسماءنا كل صباح |