|
عاش علي ومات أبي
نشر بتاريخ: 02/06/2018 ( آخر تحديث: 02/06/2018 الساعة: 14:29 )
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
توفي والدي، وكان أكبر من اسرائيل بعشرين عاما. قبل أيام من وفاته إستعاد ذاكرة الطفولة، وفي جميع القصص والحكايا لم تكن إسرائيل موجودة. فقد كان يسرد قصص شبابه في سهول الرملة ويافا، ويشرح لي بالضبط كيف أنتظر باب محطة القطار في الرملة قبل أن أنطلق ويوصيني (تعال طريق باب الواد القدس أقصر من طريق البحر). هو يعرف فلسطين مترا مترا وخطوة خطوة ولا يحتاج لخرائط ولا لمفاوضات ليتحدث عنها.
وفجأة سقطت فلسطين، وخسر الشاب الأشقر ألاف الدونمات الزراعية وصار لاجئا فقيرا في مخيم اللاجئين الدهيشة. كان يقف والدي بباب دكانته في الحارة بكل فخر وكأنه يقف أمام سوق تجاري كبير. ورغم أن دكانته كانت عبارة عن جدار من الطوب المهلهل بمساحة مترين في ثلاثة امتار الا أنه كان يلبس جاكيتا محددا وينظر الى سنسلة "ام فتحي" وكأنه نابليون بونابارت يحدّق في سور عكا. والغريب أن دكانته كانت تتسع لكل شيء، وكنت تجد فيها ما لا تجده هذه الايام في مكة مول!!! هذه الدكانة الصغيرة جدا تسببت لنا بشهرة من نوع ما في أوساط الحارات الاخرى، والشهرة لها ثمن فقد كان ممنوع علينا ان نتشاجر جزافا مع اولاد الحي خشية أن يخسر أبي المزيد من الزبائن وحين كان يكون الحق لنا كان أبي يعتذر منهم ما يثير سخطنا واستغرابنا. وبعد ذلك فهمنا انها نظريات السوق (الزبون دائما على حق). أبي الذي كان يعيش بين جبال القدس وسهول الرملة، يمثل جيل الهزيمة. هو الجيل الذي انكسر في حرب 1948، وتم تهجيره من أرضه والقائه في مخيمات اللاجئين من دون ماء ولا طعام ولا مال ولا حلال. فعاش بقية العمر خائفا من غدرات الزمن. وما ان استقر في غرفة حقيرة بنتها وكالة الغوث، حتى انتقل من الخوف على حياته الى الخوف على حياتنا. خاف أن نتعذب وخاف أن نمضي زهرة شبابنا في المعتقل. ولكن جميع مخاوف أبي تحققت تماما. وكأنه كان يتمنى وليس يخشى. ......في حارتنا التي ترعرعنا بها، تعلمنا فنون البقاء وافضل السبل للبقاء، كانت تدعى "حارة السندكا" في اشارة الى مركز توزيع المؤن على اللاجئين علمتنا حارة السندكا اشكال الحياة والمناكفات، والمعارك الصغيرة علمتنا كيف نكره وكيف نحب؟ متى نثق ومتى نشك؟ اين نضع اقدامنا ومتى نستخدم ايدينا؟ أطلق علي إسم ناصر من شدة تعلقه بجمال عبد الناصر، وفي حرب 1973 صار عصبيا جدا ونخشاه، كان شهر رمضان وكان يرمي الطعام ويصرخ، ونحن لا نعلم لماذا. اعتقدنا أن حياة المخيم جعلت أبي قاسيا جدا ثم ما لبثنا أن إكتشفنا أن السبب هو أخبار المعارك في سيناء، فقد كان يصرخ على أصدقائه (وصلوا الكيلو 101)، وكانوا يصرخون "الله أكبر". ثم دخل جيش الإحتلال منزلنا وصادروا كل شيء ونهبوا الدكانة وصادروا جميع السيارات والشحن من المخيم، ولاحقا فهمنا أن الاحتلال يصادر كل شيء "للمجهود الحربي" ويأخذ السيارات الى سيناء.. ثم دخل أبي في حزن عميق وصار يشتم الحكام العرب بسبب ومن دون سبب. ومنذ وفاته وحتى مماته ظل يقول عبارته الشهيرة ( اليهود جاؤوا يستوطنون في مقلى مليء بالزيت يغلي. لأنهم حمير، لن يستطيعوا معنا صبرا). قسوته كانت مجرد تمثيل وسرعان ما اكتشفنا أن هذا الشاب الذي تعلق قلبه في الساحل صاحب نكتة وحنون. حياة المخيم ليست كلها سلبيات، ورغم شظف العيش والعازة، والحرّ الشديد في الصيف والبرد الشديد في الشتاء، فقد تعلمنا كيمياء العمر قبل ان نتعلم كيمياء جابر بن حيان، وتعملنا جدول المؤن قبل ان نتعلم جدول ماندليف، وأكلنا "الكف" قبل ان نقرأ الكف، وحساب المصروف اليومي قبل الجبر والرياضيات للخوارزمي ... عشقنا الام قبل ان نقرأ مكسيم غوركي، وحفظنا اشعار توفيق زياد قبل ان نعرف ناظم حكمت، وزوجة الاب علمتنا ان نسخر من الرأي العام قبل ان نقرأ لبرنارد شو.... وفي حارتي التي افاخر فيها اكثر من حارة نجيب محفوظ، في حارتي اصول وأعراف، ويتضح لي كلما تقدمت بالعمر ان حارتي كانت اهم من جامعة السوربون أو جامعتي هارفارد وكامبريدج وفيها من الالم ما هو اقوى من الم دوستوفسكي وفيها من اللذة ما هو اعظم من لذة زوربا اليوناني، وفيها من الشعر ما هو أرق من اشعار طاغور وفيها من الرومانسية ما هو أوضح من قصة "في بيتنا رجل" لاحسان عبد القدوس. واللص من حارتنا لا يسرق اهل الحارة أبدا، ويا ليت لو ان السياسيين يتعلموا من حارتنا فن اللصوصية، والازعر في حارتنا كان يعتدي على الغرباء ولكنه يدافع باستماتة عن اي طفل من حارتنا ويا ريت ان الاجهزة الامنية تتعلم من تجربة حارتنا، وحتى الجاسوس ابن حارتنا كان يخجل على نفسه احيانا فيسهل على الوطنيين من حارتنا المرور على الحواجز ويعتبر ذلك ضريبة تلقائية لنشأته بيننا، والجبان في حارتنا كان لا يلقى في الهامش بل كان يكلف بمهام تليق بقدراته، فكل فرد في الحارة له وظيفة ومهمة .... ومن دون ان نقرأ الماركسية كنا نطبّق مبدأ (من لا يعمل لا يأكل) فكنا جميعنا نعمل وجميعنا نأكل ولم يمت احد من الجوع. وفي حارتنا كان جدول الضرب مختلف تماما عن جدول فيثاغورس، فكلما تعرضت للضرب اكثر يعني انهم يحبونك اكثر، وكان الاب يضربنا والام تضربنا والشقيق الاكبر يضربنا وابناء العم والخال والاستاذ وشيخ المسجد وبائع البوظة وسائق عربة الكاز وناطور العيادة ... وحينما اصبحنا من العمر 15 او 16 عاما صار جنود الاحتلال يضربوننا وكبرنا ونحن على هذا الجدول والحمد لله. هم يضربوننا اكثر ونحن نحب الوطن اكثر واكثر. في اّخر سنوات العمر مع أبي عاش مقعدا. ومع ذلك ظل يخشى أن ينخفض سعر الدولار فيتضرر أخي الذي هاجر الى أمريكا، وظل يتمنى الامن والامان للاردن حتى لا يشقى أخي الاخر الذي يعيش في عمان، ورغم تقدّم العمر ظل "علي" هو النموذج لظلم تاريخي مارسته الحكومات ضد اللاجيء الخائف من الأيام. توفي أبي.. وفي قلبي ألم شديد على هذه المعاناة التي عاشها طوال عمره.. يهرب ويقاوم ويهرب ويصمد ويهرب ويزرع الامل.. لم يكن يحترم أية حكومة ولا أي سياسي ولا أي زعيم.. كان لا يثق الا بالعلم والتعليم ويقول بلهجة ساحلية مهزومة أمام قوة لهجة الفلاحين (العلم يبني بيوتا لا عماد لها .. والجهل يهدم بيوت العز والكرم). |