|
ثمانية أيام ثقافية في عَمّان
نشر بتاريخ: 15/09/2018 ( آخر تحديث: 15/09/2018 الساعة: 12:52 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
التداخل بين الشعبين الفلسطيني والأردني، ليس مجرد كلام شعاراتي، كما أنه ليس انسياقاً وراء عاطفةً أو استرضاءً لهذه الجهة أو تلك، بل إنه ينساب انسياباً في سياق تاريخي، ممهور بالقرابة والمصاهرة والجغرافيا والتشابه في التكوين النفسي والثقافي. سياق فيه كثير من الحميمية وكثير من المفارقات، بيد أن الحميمية نجحت عبر مراحل تاريخية في تجاوز المفارقات مهما كان حجمها ووقعها.
في الأردن يسألك عن فلسطين الموظف والمثقف والمبدع وسائق التكسي وبائع الفلافل والنادل وصاحب البقالة والثري المترف والعامل الفقير. في أية سيارة أجرة يبادر السائق ما أن يعرف من أين جئت، ليسألك عن القدس والحواجز وجمال رام الله واستثنائية جغرافية أريحا، ويسألك عن الانقسام وهو غير مصدق كيف ينقسم الناس فيما تلسع السياط ذاتها جلودهم دون تمييز. ثلاثة كتاب غادروا رام الله صبيحة يوم تتحفز حراراته لتقذف بجمرها على الناس لا سيما على طريق أريحا وصولاً إلى الجسر وما بعد الجسر. نافذ الرفاعي الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء الذي تمتد معرفتك به إلى أيام الدراسة في الجامعة، والاندفاع والأنشطة الطلابية والتنافس بين الكتل وصداقة المعتقل، وجهاد صالح رئيس دائرة العلاقات العربية في الاتحاد وزميلك في الكلية العصرية الجامعية وصديقك المقرب، حيث تمضيان يومياً ثماني ساعات سوية على الأقل في العمل، وثلاث ساعات كمتوسط في معظم الأمسيات، وخلال ذلك تتناقشان، تتحدثان عن مشاريع ثقافية، تتبادلان الذكريات الجميلة والذكريات الحزينة، ويستعرض كل منكما مشاريعه الكتابية أمام الآخر طامعاً في التعميق والإثراء، وأنت الذي تدمن العمل في المؤسسات الثقافية منذ أربعة عقود، أي منذ أن انتخبت رئيساً للنادي الثقافي في الجامعة التي تعلمت فيها، وكنت حينذاك طالباً في السنة الجامعية الثانية، لتتواصل في كل المحطات الحياتية مع الثقافة حتى في الاعتقال "ما قبل الانتفاضة الأولى وخلالها"، ثم لتحسم خياراتك نهائياً وتغادر أي عمل حزبي بالمعنى الضيق للكلمة، وتفضل خيار الثقافة، من منطلق أنها الأبقى والأكثر جذرية والأبعد في المدى الاستراتيجي، وتنأى بنفسك تدريجياً عن تكتيكات ومساومات وتجاذبات تقيّد القلم وتقولِبّ التوجه. في عَمّان تزورون رابطة الكتاب، وتحظون بحفاوة الاستقبال وتوقعون هناك مذكرة تفاهم وتكامل بين اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين ورابطة الكتاب الأردنيين، ويعلن أمامكم رئيس الرابطة الباحث محمود الضمور أن مقرها هو مقر دائم لاتحاد الكتاب الفلسطينيين في عَمّان. وفي اليوم التالي مساءً يصطحبكم نائب رئيس الرابطة الشاعر سعد الدين شاهين إلى مزرعته في ناعور، وحين تقتربون من المزرعة تصعد سيارة "المرسيدس" بصعوبة، فالمزرعة تتربع على قمة جبل شاهق يتطلب الوصول إليها سيارة قوية وسائقا ماهرا. تمضون سهرة رائعة في حضن الطبيعة، تنظرون إلى الأضواء المنبعثة من بعيد، حيث الجانب الآخر من مناطق الضفة. تقول لذاتك: -"كم هو الوطن قريب في الحقيقة وكم هو بعيد حينما تطوقه الحواجز والممنوعات". ساعات من العمر في "مزرعة شاهين"، تبارت معها كاميرا الكاتب الصديق زياد الجيوسي تصويرا وتوثيقاً وفي المزرعة تأكلون بشهية فقد كان الشاعر شاهين كريماً ومضيافاً ودافئاً، وتتناقشون في الأدب والسياسة، وفي ذلك الزلزال المدمر الذي ضرب بحقد عدداً من الدول العربية، فأعادها إلى مرحلة ما قبل الدولة. تمكثون ساعات في المزرعة حتى تلوح خيوط الفجر الأولى، ثم تعودون إلى عَمّان وكل واحد منكم مشحون بشحنات إضافية من الحب والقواسم المشتركة. تخلد إلى النوم متعباً من السفر والجهد المبذول ومرتاحاً من الأجواء، ومما أنجز خلال اليوم، خاصة وأن ندوة مهمة حول المشهد الثقافي الفلسطيني، سبقت سهرتكم في مزرعة الشاعر شاهين، تشاركت فيها مع زميليك نافذ وجهاد، وكان وقع توصيفكم وتحليلكم إيجابياً على الحضور. وعلى هامش هذه الأنشطة الثقافية، تلبون ثلاثتكم دعوة الصديق الفنان التشكيلي القدير د.غازي نعيم لتناول طعام العشاء في الفحيص، لتفاجأ شخصياً بالشبه بينها وبين بيرزيت من حيث الشوارع والبيوت والطبيعة العامة. في السهرة تستمتع بغناء مطرب سوري متخصص في القدود الحلبية فـ "القدود" تستهويك منذ زمن طويل، تطرب كما يطرب أصدقاؤك، تتفاعلون مع الصوت العذب، وتحزنون على ما حل بسوريا من قبل قوى التدمير. والمفاجئ أن سهرة اليوم التالي التي دعاكم إليها الدكتور جهاد العامري وهو أستاذ جامعي وفنان رائع، تصادفت في المكان ذاته، ليكون الموعد أيضاً مع فرقة فنية سورية متخصصة في "القدود الحلبية"، لتعيش كما جهاد ونافذ يومين فنيين حلبيين، تتفاعلون طرباً ثم يستولي عليك الحزن فجأة، فـ "القدود الحلبية" تسافر بك إلى سوريا التي لم تزرها أبداً. علاقات صديقك جهاد واسعة في عَمّان، وقد سبقك إلى هذه المدينة وعوالمها الثقافية والفنية والاجتماعية منذ سنوات وسنوات، لكنه يفتح أمامك صداقاته وعلاقاته، وفي هذا الإطار، فإن زيارتكم لبيت الفنان الجميل المتعدد المواهب والمجالات خالد البندي، تأتي مختلفة حقاً، حيث تشعر منذ اللحظة الأولى، وأنت الذي تصادق بصعوبة وتختار صداقاتك بعناية وتمحيص، أنك مع هذا الفنان ستخرج على مألوفك وتصادقه مباشرة ودون تردد أو دون خضوع لمقدماتك التمحيصية التي تزعجك في كثير من الأحيان، وحينما تتبادلان أطراف الحديث في الأدب والثقافة العامة وبعض الموقف الإنسانية التي جسدتها في كتاباتك الأدبية، تدركان أن طريق صداقتكما بات مفتوحاً. يشدك ابن الفنان خالد "الطفل محمد" الذي ولد وتربى في عائلة فنية، فإذا كان أبوه موسيقياً ومخرجاً ومنتجاً ويتمتع بصوت جميل، فإن أمه المصرية أيضاً هي فنانة "مخرجة". "محمد" طفل وسيم ذو حضور جميل ومحبب، يتحرك في أركان البيت بهدوء وكأنه حين يمشي يعزف أو يغني، أي بخطوات وذوق وخفة فنان، فما بالكم ونحن نستمع إليه عزفاً وغناءً، إنه طفل "معجزة فنية"، طفل معجون بالفن حساً وشكلاً وتصرفاً وأداءً. وبعد سلسلة من اللقاءات التي شملت كتاباً وفنانين وأكاديميين أردنيين، تنهي الفنانة الرائعة سميرة خوري استعداداتها لتضفي على برنامجنا سهرة ثقافية وفنية بحضور نخبة من الفنانين والمبدعين، بينهم إضافة إلى وفدنا الثلاثي، الكاتب الأردني المخضرم نزيه أبو نضال، والفنان خالد البندي وابنه محمد والموسيقي سامي خوري. تربط سميرة وجهاد صداقة منذ أربعة عقود، فيما تعود صداقتك معها إلى سبع سنوات فقط إلا أنه على المستوى الشخصي تشعر وكأنك تعرفها منذ زمن طويل، فإلى جانب أنها فنانة موهوبة، تتحلى بمجموعة من المواصفات أهمها تقديسها للصداقة واحترامها الشديد للآخر وكرمها الحاتمي. لقاء ثقافي فني من إعداد وإنتاج سميرة بمشاركة نزيه أبو نضال وهو كاتب محب وموسوعي الثقافة. وبعد حديث مطوَّل في الأدب والثقافة والتاريخ، يفتتح الطفل الموهوب محمد البندي الجزء الأول من السهرة بمقاطع من أغنيات لأم كلثوم، بمصاحبة عود والده. ثم تستمعون بعد ذلك لحوار في العزف في منتهى الجمال والروعة بين عودي الفنان خالد البندي والفنان سامي الخوري. يتناول الحضور السلطات والمقبلات على مدى ثلاث ساعات من السهرة، لكن صوت سميرة الودود يوجه السهرة إلى منحى مختلف:" جهزوا الطاولة الكبيرة لنضع الطعام عليها"، وإذا بالطعام منسف أردني كبير من إبداع سميرة التي يعلمك لبعض الأصدقاء أنها مشهورة بين الفنانين والمثقفين في عَمّان بمنسفها الذي لا يضاهيه منسف أخر. تستغرب أن يربض منسف على الطاولة الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، ويبدو أن حالة الاستغراب تنحصر فيك وحدك، لأن الضيوف يشرعون فورا في عملية انقضاض كاملة على المنسف، دون أن يعيروا انتباهاً للتوقيت، ومع ذلك تلحق بهم وتخوض تجربة المنسف ليلاً مدفوعاً بالجوع والفضول ونداءات الأرز واللحمة الشهية والجميد البلدي. يأكل الجميع ويعود كل واحد إلى مكانه باستثناء جهاد الذي لم يغادر الطاولة إلا بعد أن تأكد تماماً من أن حبة أرز واحدة لم تنج من عملية الاستهداف. لم تنته السهرة بالمنسف، وإنما بحوار آخر بين عود وعود، ليسدل العودان الستارة على سهرة عَمّانية قال فيها العود والمنسف كلمتيهما، فكيف تجمع سميرة بين الفن الرفيع والعشاء الثقيل؟ هذا ما تستطيعه هي وباقتدار وفي كل مناسباتها كما يؤكد العارفون بأسلوبها الذي يشبع المعدة ويغذي الذوق والحس والخيال معا . معالي وزيرة الثقافة الأردنية بسمة النسور تستقبل وفدكم في مقر الوزارة، وتبدي اهتماماً بالاتفاق الذي وقعتموه مع رابطة الكتاب، وتستشفون من مداخلتها حول بعض المستجدات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، أنها متابعة جيدة ومتحدثة لبقة وقادرة على الإمساك بالتفاصيل. تضعون الوزيرة في صورة ما جرى في انتخابات الاتحاد الأخيرة، واصراركم على إجرائها بشكل موحد ومتزامن بين الضفة والقطاع. تثني الوزيرة على قول أمين عام الاتحاد "إن الثقافة توحد ولا تفرق". تختمون الزيارة وتعودون إلى الوطن، وصدى النقاشات، والأسئلة الودية من جهة والاسئلة المحرجة من جهة أخرى، يتردد في أذهانكم. تدركون أن الانقسام لا يوجع الفلسطينيين في الضفة والقطاع بل وكل العرب. أسئلة لم يكن لديك إجابات شافية عنها، إلا أنها ظلت تزعجك كلما قمت باعادتها واستدعائها ذهنياً: - كيف ستنتصرون والأنقسام قد شتت وبعثر قدراتكم؟ - كيف ستقيمون دولة في ظل جغرافيتين واسلوبي حكم متناقضتين تحت الاحتلال؟ - كيف ستستمرون باستراتيجيتين متصارعتين متناحرتين؟ - وكيف: وكيف ... ولا جواب عن أية كيف، بينما تأكدون لأنفسكم كما أكدتم لكل من قابلتموهم أن الثقافة هي السياج الحامي، والهوية والتكوين النفسي، أما تلونات وتبدلات السياسة فهي رقص رجراج على الحبال. الثقافة وقوف ثابت على الأرض تارة، وتحليق في فضاء الحلم تارة أخرى، وبين الثبات على الأرض والتحليق بجناحين من حلم، يزدان وطننا قصائد شعر ونصوصاً قصصية وروائية، ويتطرز صدره بلوحات تشكيلية، ويعلو صوت الغناء، فتشرئب أعناق أشجارنا، ترتفع رؤوسها إلى الأعلى، تتنسم هواء الوطن وتتوضأ بالنور والضياء وتسبح لخالقها شكراً كبيرا. |