|
زميلي و(الإستبنديوم)
نشر بتاريخ: 17/09/2018 ( آخر تحديث: 17/09/2018 الساعة: 11:43 )
الكاتب: رشيد حمدان
الإستبديوم بالبولندية هي المنحة الدراسية، ومبلغ من المال يصرف لنا من الحكومة البولندية، عندما كنا ندرس هناك، بالإضافة الى الدراسة المجانية، وكنا نتسلم هذا المبلغ من خلال فتحة صغيرة بباب غرفة لا نعرف مساحتها لأننا لم ندخلها، ولكننا كنا نرى الوجه الجميل لتلك المرأة الأربعينية السمينة، وهي تبتسم عندما تسلمنا المبلغ البسيط وتشير لنا بإصبعيها (السبابة والوسطى) على مكان التوقيع، مع العلم أن الإشارة بأصبع السبابة فقط هي لغة للتفاهم مع غير البشر.
كنّا نفرح عند سماع نبأ صرف مبلغ المنحة، لأنه عادة ما كان يصرف بوقت القحط، إما نهاية الشهر بعد أن أنفقنا ما كان بجيبنا، أو عند اقتراب نهاية السنة الدراسية وهنا نكون قد انهكنا. يبدو أن زميلي (ف) كان يلاحظ أننا اقتربنا من الفلس او افلسنا فعلا، فاختار بعد ظهر يوم جمعة حيث السبت والأحد عطلة رسمية، ليرسم ابتسامة عريضة على وجهه ويصفف شعره وهذا نادرا ما كان يحدث، ويقرر أن يلعب دور المنقذ . "مرحبا شباب... يوم الاثنين الإستبديوم”. أحدنا يصرخ ابتهاجا وآخر يبكي فرحا وواحد يقفز على السرير وهناك في زاوية الغرفة من يرقص احتفالا بالخبر السعيد، فنحن نأكل البيض منذ أسبوعين إن وجد، وأحيانا ننقع الخبز بالشاي ونقنع انفسنا بأنها حلوى لذيذة. مسرعين نذهب الى السوبر ماركت لنشتري بما تبقى معنا لليوم الأسود، ومنا من يستدين.. نعم يستدين لاننا سنتسلم مبلغ المنحة بعد يومين، وسنكون قادرين على سداد الدين، وهنا نجد فجأة أحد الزملاء يخزن نقودا، ويقرر أن يُسعدنا ويقرضنا من مالٍ حرم نفسه من إحتياجات كثيرة ليوفره، وبهذا يكون قد فك ضيقنا وضمن استراده فقد أتى لنا (ف) بخبرٍ جميل. نشتري بكل ما نملك وبالمال الذي اقترضناه أيضا، لم نشتري البيضة فقط بل اشترينا من تبيضها وسنأكل لحم الدجاج بعد طول غياب. أذكر زميلا حمل الدجاجة، احتضنها ورقص معها وكأنها معشوقته التي تجرأ على الظهور علنا معها بعد فصل حرمانٍ طويل، قبّلها قبل أن يتبلها وودعها قبل أن يضعها بإناء الطبخ على أمل اللقاء بها وتقبيلها مرة أخرى بعد أن تكون إحدى أهم مكونات المقلوبة. لم نشعر بالوقت كيف مضى لقد كانا يومين من الأيام الجميلة بحياتنا... أيام الأمل وما أجمل أن تعيش على أمل، سنخرج من حالة الضيق التي نحن بها، سنأكل ونشرب وقد يتوفر معنا مبلغا من المال لنشتري هدية لأمنا نشكرها على دعواتها لنا طوال الليل والنهار او والدنا الذي لم يبخل علينا بشئ او اخواننا الذين تحملوا الكثير لننهي دراستنا. غدا يوم الإثنين.. وقبل أن ننام قام صديقي ماهر ليعد لنا العوامة ووضع السكر المتبقي لدينا بإبريق الشاي وصب عليه الماء ليصنع القطر ويحلي بها العوامة. أكلنا ونمنا .. استيقظنا صباحا بنشاط على غير العادة لم نتناول طبعا طعام الإفطار فلم بتبقى شيئا لنأكله لقد احتفلنا أكلا طوال بومين. سرنا بشوارع مدينة زابجي بجنوب بولندا نشتم كالعادة بكل صباح رائحة الفحم، فهي مدينة مناجم الفحم هناك، وصلنا الى الكلية، لم ننظر لقاعات المحاضرات ولا للاصدقاء والصديقات، دخلنا مباشرة الى مبنى الادارة قاصدين الفتحة الصغيرة التي بالثلث الاعلى من باب غرفة الصندوق، وعندما كنا نسير كنا نرى من بعيد زميلي (ف) فهو قد حضر قبلنا ووقف بأول الطابور ليتسلم المنحة قبل الجميع، ابتسمنا له جميعا وحييناه، فهو صاحب البشارة . انتظرنا اكثر من ساعة ولم تحضر تلك الجميلة، فرحنا كثيرا عند تأخرها .. ولم لا نفرح وهي قد تأخرت لانها ذهبت للبنك لإحضار المبلغ الذي سيوزع على عدد كبير من الطلبة الأجانب، والذي لا يمكن أن يترك بهذا المبنى حيث لا تتوفر به الحماية الكافية. لم يطل انتظارنا، لقد جاءت المنقذة أخيرا.. سمعنا صوت حذائها على أرضية المبنى الخشبية .. جاءت وهي تحمل بيدها ظرف صغير به أدوية ويدها الأخرى معلقة على رقبتها بقطعة من الشاش مغلفة بطبقة من جبيرة (جبصين)، وقفت وبعيناها الف سؤال، ولكنها آثرت أن تبدأ بالاعتذار اولا عن التأخير، لأنها وقعت وهي تنزل درج المنزل صباحاً، وكسرت يدها فاضطرت للذهاب للمشفى لتجبيرها، ثم سألت عن سبب تجمهرنا وهي تبتسم معتقدةً أننا علمنا من أحد جيرانها عن إصابتها وأننا جئنا للتهنأة بالسلامة، فسألها أحد الزملاء اذا نأتي غدا لاستلام المنحة؟ لم يكن لديها علم بهذا الموضوع ولم يبلغها أحد عن موعد تسلم مبلغ المنحة، ووعدت ان تبلغنا بموعد الصرف فور ابلغها من الوزارة، توجهت انظارنا جميعا إلى حيث كان يقف زميلي (ف) ولم نجده .. اعتذرنا من السيدة وقد نسينا أن نتمنى لها الشفاء.. خرجنا من المبنى نبحث عن من كذب علينا، شاهدناه من بعيد وهو يتكئ على سور مبنى الكلية، ينظر الينا ولا يستطيع الوقوف من شدة الضحك. عدنا الى سكننا بلا نقود ولا طعام ولا حتى سكر لنشرب الشاي وعيوننا لا تنظر بعني من أقرضنا بنية السداد بعد بومين، وفوجأنا بصوت زميلي (ف) وهو يقسم بأغلظ الأيمان أن (الإستبديوم) يوم الإثنين القادم. ملاحظة: لقد كذب زميلي بهذه ايضا. |