وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الازمة الفلسطينية بين الممكن والمطلوب

نشر بتاريخ: 02/12/2018 ( آخر تحديث: 02/12/2018 الساعة: 13:27 )
الازمة الفلسطينية بين الممكن والمطلوب
الكاتب: عوني المشني
تأزم الوضع الفلسطيني وعلى مختلف الاتجاهات. في مسيرة الدولة المستقلة العتيدة تتفاقم الازمة: فشل جهود المفاوضات، انحسار المقاومة في قطاع غزة ودخولها مربع المقايضة بتحسين الأحوال المعيشية عبر مقايضة فيما يعرف بملف التهدئة، المقاومة السلمية في الضفة استعراضية نخبوية غير قادرة على احداث فارق ملموس، صفقة القرن تطبق على الارض بدون اعلان وهذا يمثل تتويج لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية.
على صعيد داخلي: تأزم العلاقات بين فتح وحماس وفشل جهود المصالحة، احتقان الوضع في غزة نتاج الحصار والبطالة وازمات معاشية مزمنة، احتقان الوضع في الضفة نتاج الفساد وصيغ الضريبة المتصاعدة والالتفاف على المواطن عبر قانون الضمان الاجتماعي.
على صعيد إقليمي: ادخال الساحة الفلسطينية في التجاذبات الإقليمية عبر علاقات كل من فتح وحماس مع القوى الإقليمية، طرف يصطف الى حد ما مع ايران وقطر وتركيا وآخر يصطف مع السعودية ومصر والأردن، وطبعا تحاول تلك المحاور الإقليمية استخدام القضية الفلسطينية في صراعاتها. صحيح ان هناك منجزات على الصعيد الدولي وخاصة في الامم المتحدة ولكن تلك المنجزات لم تترجم على الارض بما يترك بصمات ذات اهمية نظرا للموقف الامريكي المنحاز بوقاحة للموقف اليميني الاستيطاني الاسرائيلي.
نحن امام موقف فلسطيني متأزم بمختلف اوجهه، وهي أزمات تعبر عن قصور كبير في الوضع الذاتي الفلسطيني، وتترك تأثيرات استراتيجية على مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، لهذا فان ابجديات الرؤية السياسية الصحيح للمعالجة تكمن في تغيير عميق على الوضع الذاتي يصل لمستوى ان تستطيع الحالة الفلسطينية قادرة على مواجهة التحديات المصيرية التي تواجهها قضيتنا الوطنية.
على هذا الصعيد هناك 3 اتجاهات في التعاطي مع الحالة الفلسطينية:
الاتجاه الاول مستفيد من استمرار هذا الحال على اعتبار ان اي تغيير فيه سيلحق الضرر بمكانه ومكانته، هذا الاتجاه هو الذي يلتف حول قيادة طرفي الانقسام ويؤجج الفتنة ويدعم باتجاه استمرار المراوحة، وهو اتجاه له تاثير واضح على صانع القرار الفلسطيني بدرجة تتقاطع مع تاثيرات قوى إقليمية ودولية الى حد ان موقف هذا الاتجاه يمثل في بعض الأحيان وبشكل مستتر موقف قوى إقليمية.
اما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الذي يدعو لاصلاح الحالة الفلسطينية عبر خطوات متعددة عبر إقناع النخب القيادية والحوار معها، هذا الاتجاه يعتقد ان النخب المهيمنة يمكن ان تنتقل بالحالة الفلسطينية من وضعها الحالي الى وضع افضل عبر إجراءات وقرارات على اكثر من صعيد ، مثلا المصالحة وإعادة وحدة السلطة في كل من غزة والضفة، وقرارات سياسية بشأن التنسيق الأمني والمفاوضات وأمنية اقتصادية، هذه الاتجاه فشل على الصعيد العملي فشلا ذريعا عبر عشر سنوات من محاولات انهاء الانقسام، فشل في تغيير المنهجية ازاء التنسيق الأمني او العلاقة مع اسرائيل، فشل في تغيير المسار الاقتصادي القائم على احتكارات جشعة وضرائب عالية وفساد مالي كبير ، والاهم من فشله هذا فقد استطاع الاتجاه الاول ان يجير هذا الاتجاه لخدمته وبإطالة عمر الوضع القائم بنخبه وسياساته.
الاتجاه الثالث هو الذي يدعو الى اعادة بناء المؤسسة السياسية الفلسطينية على أسس مختلفة اساسها مشروع وطني جامع للكل الفلسطيني ووفق اختيار ديمقراطي حر، هذا يعني اولا اعادة بناء منظمة التحرير بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بما يضمن تمثيل ديمقراطي لكل تجمعات الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات وبعيدا عن المحاصصة الفصائلية التي تختزل الحالة الفلسطينية فيها رغم عشران الأسئلة الجوهرية حول حضورها ودورها وفاعليتها. 
هذا الاتجاه يعتقد ان القوى السياسية الفلسطينية وصلت الى الطريق المسدود في محاولتها لإعادة تأهيل نفسها عبر إجراءات لا ترتقي للتحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية، لهذا فالتعويل على اصلاح ما افسده الدهر لم يعد يجدي مما دفع هذا الاتجاه للذهاب الى ما هو ابعد متسلحا بمزاج جماهيري مهيأ بل تواق لذلك، ومنطلقا من الثوابت الفلسطينية التي تمثل اصالة الثقافة الوطنية الملتزمة.
المثير هنا ان كثيرا من أنصار الاتجاه الثاني "اصلاح الوضع القائم" ينتقلون وان كان بخجل الى الاتجاه الثالث "اعادة البناء" وذلك بعد وصلت محاولات الإصلاح الى نهايات يائسة وبائسة، على سبيل المثال كانت دعوة المجلس الوطني للانعقاد على قاعدة اعادة تقييم المرحلة السابقة واتخاذ إجراءات "ثورية" في العلاقة مع اسرائيل والولايات المتحدة واتفاقيات اوسلو، لكن تمخض الجبل فولد فأرا، المجلس الوطني باعادة تشكيل عضويته وانتخابات اللجنة التنفيذية والقرارات وطريقة التعاطي معها فيما بعد مثل ارتدادا الى الخلف وقضى بذلك على امال الكثيرين في امكانية الإصلاح، مثال اخر المصالحة، حيث اعتبرت الجولة الاخيرة التي حملت من الامال ما جعل شعبنا يتناسى عشر سنوات من المحاولات الفاشلة، هذه الجولة فشلت فشلا مدويا وبطريقة عمقت الاحباط الجماهيري، وجعلت منسوب الثقة الشعبي في الفصائل الفلسطينية يتردى للحضيض، وتأتي التهدئة في القطاع التي قدمت اهداف المقاومة الى مستوى الاحتياجات المطلبية والتي تهدف الى اطالة عمر حكم حماس للقطاع لا اكثر، هذه أمثلة ساهمت بشكل او بآخر في الحسم لدى الكثيرين بأن عملية اصلاح الوضع القائم قد تجاوزتها الاحداث وان لا بديل عن عملية اعادة بناء جذرية وعلى أسس وبأدوات مختلفة، والاهم ان الوعي الجماهيري بذلك يتعمق ويتسع في أواسط الجماهير ليصبح الوعي الشعبي بحسه الأصيل اكثر إدراكا لمتطلبات الوضع الفلسطيني من قطاعات واسعه من مثقفيه الذين لا يجيدون الا التوصيف والخوض في حوارات نظرية أشبه هي اقرب للترف الفكري منها الى العمل على صياغة مستقبل شعبنا.
وهنا على وجه التحدي. تكمن المشكلة، المناخ الجماهيري ناضج للتغيير، والتحديات التي تواجه شعبنا تستدعي ذلك التغيير، ولكن القوى المفترض ان تقوده هي المشكلة. وببعض من التعمق لسبر غور هذا الوضع فاننا نلاحظ ان تجارب التغيير السابقة والتي فشلت قد تركت اثارها على المثقفين اذ بات لدى الكثير منهم قناعات باستحالة عملية التغيير، لم يدرك هؤلاء ان تلك المحاولات كان ينقصها اهم عوامل نجاحها فقد جاءت في ظرف لم تنضج بعد عوامل النجاح، الحاضنة الجماهيرية لم تكن متوفرة، حيث كانت القناعة ان القوى السائدة تستطيع القيام بمهامها، في ظل المعطى هذا كان طبيعي ان تفشل المحاولات، هذا اضافة الى ارتباط بعض تلك المحاولات بمحاور إقليمية او دول مؤثرة مما أفقدها مصداقيتها، بينما الظرف الراهن اختلفت فيه الظروف حيث الحاضنة الجماهيرية شبه حاضرة وتنتظر من يقرع الجرس، اضافة لفشل واضح غير مشكوك فيه وكامل لتلك القوى. مسألة اخرى في غاية الأهمية وهي ان القوى والبنى التي تسود الان كانت محاطة سابقا بهالة لها من القداسة تشكل سياجا حامي لها وكانت اقرب الى التابو الذي يمنع الاقتراب منه بينما الان انهارت قداسة هؤلاء بأفكارهم وادواتهم ومفاهيمهم وأصبح الصوت النقدي عاليا وبالتالي اصبح الصمت في ظل هذا الوضع هو المخجل وربما ان دعم وتأييد القوى السائدة وسياساتها أمسى عمل مخجل للكثير ممن يهتم بوضعيته الاجتماعية والسياسية. وهناك جوانب مختلفة لها علاقة بالبنية النفسية للمثقفين الذين يعتقدون في الأغلب ان دورهم ثقافي نقدي لا اكثر بينما عندما يتعلق الامر بممارسة الثقافة كقوة فعل سياسية كثيرا منهم يعتقد ان ذلك ليس من شأنه، وهنا ووفق هذا المنطق فان الثقافة تفتقد دورها كقاطرة تغيير لتصبح أفيون تخدير.
مع ذلك فان ضغط المستويات الجماهيرية من اجل التغيير سيدفع قطاعات من المثقفين ان تاخذ دورها في إنجاز تلك المهمة، هذا ليس من باب الامنيات هذا تحصيل حاصل للتفاعلات التي تصاحب الوضع الفلسطيني، وحتى لو تردد الكثيرون في اداء مهمتهم التاريخية فان هناك من سينبري لهذه المهمة التاريخية.